ان تشعر بكل متع
السفر، وتأتي على كل فوائد الترحال، ان تعيش أحاسيس متناقضة، ومشاعر متضاربة، وتجد
ذاتك تتنازع بين المكوث في هذه المدينة والرحيل عنها، فلأنك في القاهرة.. تأتيها
زائرا بعدما نازعتك نفسك نحوها، تعيد اكتشافها، وأنت العليم بتفاصيلها، تبحث عن
"المغاير" لتصل إلى "المألوف"..
القاهرة.. أي قدر
قذفك ثانية في هذه المدينة، الضاجة بالتفاصيل، المزدحمة بالأحداث، الممتلئة
بالحكايات؟!، تنظر إليها من شرفة فندق بارميزا في الطابق الثالث منه، فترى الصورة
أمامك متشكلة كما تعرفها، من البعيد يلوح مبنى الأوبرا المصرية، يصلك نحوه خيط
ضئيل، يكبر كل ما تأملت التفاصيل حوله، أكداس من البشر تغدو وتروح، تحمل على
أكتافها حكايات مثقلة بالوجع، ومثخنة بالحياة، لا تدري أي خاتمة ستسدل الستار على
مشوارها..
المركبات تنقل
المستضعفين في الأرض، وهي تئن من الحمولة، والفضاء ضاق بها، وذو البدلة الأنيقة في
السيارة الفارهة، ينظر متأففا إلى ذو الملابس الرثة، في حافلة مكتنزة بالركاب، دون
أن يفطن، إن الأخير ينظر إليه كذلك متأففا.
على ناصية الشارع،
يفترش احدهم الأرض، ينتظر من يعطف عليه، وأقدام المارة، تسير دون أن تتوقف لتستمع
شكواه، ويقرأ في احذيتهم سماتهم، ويعرف منها اثريائهم وفقرائهم، فيرفع البكاء
حينا، ويخفته حينا آخر.
والنيل.. يمضي كما
الحياة، هادئا، وادعا.. فوحده الشاهد على حكاية طويلة، ليس لها بداية وليس لها نهاية،
يمضي يسامر العشاق، وهو لا يعرف أين مبتدأ حكايتهم، ولا أين خاتمتها، يطوق
القاهرة، كمن يتلصص على اسرارها.. وللقاهرة ألف سر وسر..
المشاعر التي
انتابتك لحظة وصولك إليها، تعاودك من جديد، صوت النداهة يتردد على اسماعك، يأخذك
من مكانك، ليقودك إلى حيث يريد، وأنت تنقاد إليه خاضعا مستسلما، تمضي جهة الصوت
الخفي، وأنت لا تعرف أكان هذا الذي يدعوك "عشقا" يحن القلب إليه، أم
"وهما" يفر المرء منه..
أأحببت القاهرة يوم
جئتها أول مرة؟، أم هربت منها؟!.
تصطدم بالسؤال..
فتنزل من عليائك، تفتش عن إجابة "حائرة" لسؤال "حائر".. وتمضي
وحيدا هائما، أمواجك تضطرب على صورة المدينة، حين تلج دروبها وميادينها..
وحدها القاهرة..
وليست أي مدينة أخرى، من تمارس الغواية، وتثير شهية العابرين.. تبسط مفاتنها، لمن
تشاء، وتقبضها عمن تشاء.. وفي كل مرة، تأتي وتروح والسؤال يكبر ويتعاظم: أأحببت
القاهرة؟، أم هربت منها؟!.
أمضي في الشارع
وحيدا.. اقطع المسافة الواصلة بين بارميزا والأوبرا... انعطف من شارع بارميزا نحو
شارع مجلس الدولة، دون أن أأهبه للهيب الشمس القائظة.. والحرارة الملتهبة، اتوقف
قريبا من شارع التحرير، أتأمل المنظر من حولي، كم من صورة تناسلت عن هذا
المكان!... وكم من العشاق توقفوا برهة هنا أو هناك.. ليكتبوا فصول حكايتهم، ويكون
النيل شاهدا عليهم.. وكاتما لأسرارهم؟!.
يمسك أحدهم بيد
حبيبته في أول شارع التحرير، ثم يتركها في آخر الشارع، وكأن الحكاية لا تحتمل أكثر
من هذه المسافة.. ويبتسم سائق "تاكسي" لمار في الطريق.. فيلعنه بعدئذ في
المحطة التالية، يطأطئ عجوز رأسه وهو يمضي في الشارع، ثم يرفعه مزهوا في خطواته
التالية.. أحدهم يلتقط بعدسته صورا للمشهد، وفي الجانب الآخر هناك من يلتقط صورا
له.. لا أحد يعرف على وجه الدقة، من يراقب من.. ومن يضحك على من؟!..
أتوقف عند ميدان
الأوبرا تنازعني نفسي بين الدخول إليها، وتأجيل ذلك، لغرض في نفسي.. احسم الأمر،
بأن أشير لسيارة أجرة تأخذني.. حيث شاء لي الهوى..
وسط البلد.. ميدان
طلعت حرب.. مكتبة مدبولي.. دار الشروق.. بنك مصر.... أحوم حولها وسائق الـ
"التاكسي" نسخة من سائق "خالد الخميسي"، يقول كل شئ.. ويتحدث
في كل شيء..
ـ البلد ده غالية
عالينا أووي.. بس ولاد الحرام .....
أصم أذاني عن باقي
الحديث... فكل فصل أصعب من سابقيه.. وحكاية هذا السائق، تتناسخ في كل الأفواه وعلى
كل الألسنة، وكأن تفاصيل الحكاية ذاتها، تزورهم بذات لباسها، الواحد تلو الآخر..
ـ تصور يا بيه..
الواحد يشقى طول النهار وفي الآخر ولاد الحرام...
أتأمل في كلامه،
الوجوه المنعكسة على مرآة السيارة.. محاولا تبيان صورتها، لا اعرف أيهم يضحك من
حاله، وأيهم يبكي عليه..
يثرثر سائق التاكسي،
فآخال قدرتي على تأليف كتاب يضاهي ما كتب عنهم في اشهر وسنوات، أنظره، وحين ينتبه
لنظراتي الغاضبة، يدير دفة الحكاية، فيتحول سخطه على كل شيء، إلى فرحه بكل شيء..
ـ إحنا غلابة يا
بيه، لو مش ح نضحك، ح نموت من الهم..
أتذكر قول آخر: هم
بيضحك .. وهم بيبكي.. واحنا محناش عارفين بنضحك ولا بنبكي ..
اطلب من السائق أن
يتوقف بي، اشعر بروحي تناجي المدينة، وأنا استمع إليها.. اقف في موضع استعيد ذاكرة
الرحلة الأولى.. افتش عن الأسماء، واسترجع الصور المحفوظة.. اعرف هذه المكان،
قرأته وسمعته قبل أن ألج إليه..
لا يمكن أن تشعر
بغربة في القاهرة، حتى وأنت تأتيها "تائها" و"هائما" في
زيارتك الأولى، ثمة امكنة تعرفك وتعرفها قبل أن تدخل بوابتها.. كل
"غريب" هنا "مألوف" بالنسبة إليك.. تعرف تفاصيله كما كانت، ثم
ألت إليه..
سائق التاكسي ينتظرك
قريبا.. وهو يرمق "جنونك"، ويستحثك على المسير.
ـ هو أنت يا بيه لو
عايز اوديك في أي حته، ما تشاور لي عليها.
لا مكان محددا لك..
كل الأمكنة تشتاق إليك، وكل الدروب تسعك على اكتظاظها، والميادين تشتاق إليك، تود لو ان بينها وبينك
ودا دائما ، وذاكرة تشتعل كل حين..
ـ والنبي يا بيه ..
تشعر إنك مطارد في تأملاتك، وفي مناجاتك.. تفتح عينيك ثم تغمضها، تأخذك القاهرة
إلى اعماقها، تغوص بك في احشائها، ثم تحلق في سماواتها.. تنظر إليها من كل
الزوايا، تشعر بها جسدا لا ينفصم جزءا منه عن جزء..
ـ ربنا يجزيك يا بيه..
تتوالى عليك الأمكنة..
وتحوم حولك الشخوص..
وذاكرة الزيارة الأولى تعيد تشكيل ذاتها..
تندفع دون أن تدري إلى مقعدك وأنت تشير إلى السائق ليأخذك إلى خان الخليلي
والحسين.. ودون أن تأبه لتعليقاته.. وما يتلوه عليك من اسطوانة متكررة..
ييأس منك.. يعرف ان الحديث معك لا يفيد.. يشعر بجنونك.. فيمضي مسرعا على
ايقاع اغنية تصرخ وتعوي.. ويصرخ هو معها: قالو عنها ام الدنيا، وانا نفسى اقول بقى
حاجة تانية، لو قلبك عليها هتخليها اجمل من كدا مليون مره.
ـ ممكن الست؟؟..
يناظرك غاضبا.. ثم يقذف ويلاته شرقا وغربا.. ويلعن المارة وقائدي
المركبات.. ثم يصل بلعناته على الأتوبيسات التي تنافسهم في ارزاقهم، وتجعلها عرضة
لنقل المجانين امثالي..
يستبدل الشريط وهو يواصل التأفف والتذكر..
يأتيني الصوت هادئا متناغما مع لحظة التأمل الوجداني التي أستمع فيها لروحي
وهي تحاور الأمكنة..
أنا وحبيبي يا نيل..
نلنا أمانينا..
مطرح ما يرسى الهوى..
ترسى مراسينا..
وكان أن رست مراسينا عند نفق المشاة القديم الفاصل بين الأزهر والحسين..
وأقذف نفسي في قهوة الحرافيش انتظر صاحب شهرته أن يطل علي، ويحكي لي عن روايته
التي لم تصدر بعد.. لكنني اتقابل بديلا عنه، مع باعة متجولين يبيعون التراب مسكا..
والنحاس ذهبا.. يريد هذا ان يلمع الحذاء.. وذلك ان يبيعني الهواء..
اطلب كوب الشاي.. فيأتيني معه الفستق والبندق.. ثم فاتورة طويلة بكل كوب
ماء شربته، وهمسة هواء تنشقتها، وبكل لحظة جميلة عشتها في هذا المكان، ابحث عن
ذاتي الغائبة فيه منذ زيارتي الأولى.. فلا أجد غير صورة متكررة، بكيفيات مختلفة.
ـ والنبي يا بيه..
أدفع مكرها.. وأنا أكرر لعنات سائق التاكسي التي أسمعني إياها قبل قليل..
أهرب من عالمي إلى عالم آخر، أشعر فيه بسمو روحي.. أدخل مسجد الحسين سالما آمنا ..
يأخذ حارس المسجد حذائي ويعطيني رقما بدلا منه.. ثم اطوف مع الطائفين حول رأس
الحسين المسجاة في تخت يتوسط المصلى.. وعليه لحاف من استبرق.. اشعر أن بيني وبين
القاهرة أمدا بعيدا .. وانني وقد انفصلت عن العالم السفلي، الساكن خلف ابواب
الجامع، أبتهل بما احفظه من الادعية والاذكار.. اذرف الدمع.. واصلي طلبا للمغفرة..
ثم انسحب من المكان، لتتقاذفني الجموع المحتشدة حول الحسين إلى الخارج ، حيث الكل
ينتظر اشارة مني ليقلني إلى أي مكان أريد
..
شارع جامعة القاهرة.. ميدان الجيزة.. تفريعة الكوبرى.. شارع الهرم..
في اللحظة الزمنية التالية ، اجد نفسي تصفق لراقصة وهي تتماوج بجسدها على
أنغام كانت ذات مرة "اصيلة"..
ألم أقل لكم إنها مدينة التناقضات..
والمشاعر المتماوجة..
والأحاسيس المبهمة..
اقف في اعلى نقطة يمكنني الوصول إليها.. انظر للنهر وهو يجري.. لكوبري
التحرير.. وقلعة صلاح الدين.. والنادي الأهلي ودار الأوبرا تمتد امامي لتلقي مع
المتاحف ومراكز الثقافة والابداع.. ومراكب النيل تمخر عباب النهر.. وانا في مقامي
هذا.. ارفع راحة يدي، كما التمثال الذي ابصرته قبل قليل..
هي ذي القاهرة.. أيها المسكون بها، العاشق.. الراهب منها.. تقلب صفحاتها
نحوك، وأنت تفتش عن ذاتك الغائبة في دروبها، وازقتها، وميادينها، وتبحث عن إجابة
حائرة لسؤال حائر: أأحببت القاهرة يوم جئتها مرة أخرى؟، أم هربت منها؟!.
القاهرة في 10 أكتوبر 2010