ومضى اللقاء الثاني بفراس التوبي سريعا.. ولم أقل بعد ما لدي من
كلمات، كنت أريد أن ابوح مشاعري لهذه البلاد التي أحببتها، فأنا لم أشعر هنا
بالغربة والبعد عن وطني الغالي، ربما لأن شعب هذه البلاد أحتضنني بكل ود وترحاب..
وجدت في قلوبهم النقاء والصفاء وحب الآخر طالما أن الآخر يحبهم.. لا يضمرون شرا
لأحد، ولا يكيدون أو يخادعون.
ساعتين.. تزيد أو تنقص قليلا، لكن دقائقها كانت سريعة، حد أنني
لمحت في وجه محدثي الانشغال، وقد أخبرني حينها عن تعدد مهامه ومسئولياته، وكيف أنه
يحمل ثلاثة هواتف كما رجال الاعمال والاشخاص المهمين، غير إنه ليس مثلهم، هو انسان بسيط لا مع هؤلاء
ولا مع هؤلاء ..لكن الظروف فرضت عليه ذلك.
أبتسم فراس وهو يكشف لي سر الهواتف الثلاثة: الهاتف الأول عمومي،
والثاني للأهل، والثالث لـ....
وغادرنا المقهى بعدها.. ونحن نأمل في لقاء آخر، خلال يوم أو
يومين..
في السيارة رأيت استعجال فراس على موعده، ومحاولته السرعة لإيصالي
إلى سكني في الفندق، فطلبت منه أن يذهب إلى مشواره، وأنا ساتصرف في أموري، كان
مترددا في الموافقة على هذه الأمر، لكنني ألحتت عليه، ونزلت لأواصل مشوار العودة
بنفسي..
وراح فراس يعتذر ويتأسف.. على تركي وحيدا.. قلت له أنني أعرف هذه
البلاد ولا خوف عليّ.
وتركته، أو بالأحرى تركنا بعضنا.. وذهب كل منا إلى حال سبيله، كان
ليل الرباط بنسماته الدافئة، والشارع الممتد بامتداد الأشجار المحيطة حوله، باعث
على التسكع حتى الوصول إلى الفندق، دون الحاجة إلى استقلال سيارة اجرة.
ومشيت، قليلا ثم قررت أن أخذ المسلك اليمين، وواصلت طريقي حتى
وجدتني بعد برهة قصيرة أقف قبالة الفندق، يا ألهي، لقد كنت قريبا جدا من المكان،
وفراس يخال أنه أنزلني في مكان بعيد.. وكأنه لا يعرف مدينته.
بعدها أرسل فراس رسالة يطمئن على وصولي للفندق، ويعتذر مرة ثانية
وثالثة.
كان برنامج الزيارات المعد لوفدنا في المغرب متنوعا بين زيارات
ثقافية وفنية وسياحية، وكنت أستمتع في برنامج وأضجر في برنامج آخر..
كان فراس واحد من الاسماء التي ترشدني عن بعد إلى الأماكن التي
ينبغي عليّ زيارتها، لقربي منها..
في مدينة اصيلة طلب مني الذهاب إلى مقهى زريرق والسؤال عن حسن
باقر وهو رحالة عُماني عشق أصيلة، أحبها و مات بها.
وفي طنجة ارشدني لزيارة مقهى الحافة حيث أرواح محمد شكري و تشرشل و
بول بالز و جان جوني و أخرون.
في يوم تالي، وفي اذاعة أصوات المغربية في الدار البيضاء، ألتقيت بفراس
صدفة، كان قد جاء إلى الاذاعة ليحل ضيفا على برنامج أولاد البلاد للحديث عن الموسم
الثقافي لداباتياتر.. وكنت مع الوفد قد أنهينا جولتنا في اقسام الاذاعة..
تحدثنا سريعا، وقلت له إننا قد نلتقي الليلة أو بعدها..
ولم يتم اللقاء ليلتها، فقد قضاها فراس في الدار البيضاء بعد عزومة
عشاء تلقاها هناك.
وفي يوم آخر وبعدما سنحت الظروف، كنت اتصل به وأنا قريب من المقهى دون
أن اعرف مكانه بالضبط، ودلني عليه، حتى حفظت الدروب حوله، كما حفظت مكانه.
كان مقهى الفن كما عرفته أول مرة هادئا.. إلا من شخص أو اثنان
يتوزعان في الطاولات الداخلية، أشرت إلى فراس أنني أحبذ الجلوس في الطاولة التي
جلسنا عليها أول مرة.. وكان لي ما أردت..
لكن لقاء هذه المرة كان مختلفا بعض الشيء عن اللقاء الأسبق، فقد شاركتنا
الطاولة فتاة مغربية عرفتنا باسمها، وأستأذنت للجلوس معنا، ورحبنا بها.
وأعترف هنا.. أن نهى ، وهذا هو أسمها أخذتنا بعيدا ، وصرنا نتحدث
معها عن عُمان وطبيعتها وموقعها وتاريخها وجغرافيتها ونعرض صورا لبلادنا .. وراحت
هي تحكي عن دراستها للتمريض في روسيا وأسفارها
إلى باريس وعواصم اوروبية اخرى.. ومن ثم عالمها في الفيسبوك وما إلى ذلك.
كانت جلستها ثقيلة على نفسي، ولذلك تركتها ورحت أتحدث مع فراس
بلكنتي العُمانية، واواصل سرد اخباري وأنا اتنقل بين مدن المغرب.. وسط امتعاض منها
وربما غضب.
تحدث فراس مرة أخرى عن شوقه لعُمان، وترقبه انتهاء دراسته للعودة
إلى وطنه الذي يحمله معه أينما ذهب.. قال أن شوق الوطن يتصاعد!.
وقلت أن الحنين دائما يأخذنا إلى الوطن، ولا يمكن لأي بلاد أن تكون
صورة مقاربة للوطن الجميل، الوطن الذي نعتز بكل ما فيه .. نعتز بقائده.. وبنهضته.. باتفاقنا معه أو حتى اختلافنا.. سيظل الحياة التي تدب في أوصالنا.. والحلم الجميل الذي يسكننا.
كنت أرصد مشاعر فراس وهو يتحدث عن وطننا.. وأرى دمعة خفية، وكلمات
مرتعشة، تختلط بألم الشوق والحنين.
تحدثت معه في كتاباته عن الوطن، وكأني معه حين يكتب، وحين ينبئ عن
مشاعره، وحين يسرد افكاره ورؤاه.. الكتابة يا صديقي ليست نقطة حبر ندلقها على ورقة
بيضاء وكفى.. أو كلمة نطلقها للريح لنعّبر عن أحاسيسنا ومشاعرنا.. ليست مسألة سهلة
أن تطلق حكما لا تعرف أبعاده، ولم تحط به خبرا.. لذلك أنت تعلم هذه الحقيقة، وتعود
كثيرا لتعديل فكرة طرحتها هنا، أو قلتها هناك، إنك تعرف الصواب ولا تخجل من اعلان
خطائك وتسحب كلماتك أو تستبدلها بما توصلت إليه لاحقا.
أعرف أن حال فراس التوبي.. كحال الكثير من عشاق هذا الوطن، لا
يتحملون رؤية أي قصور أو خروج عن الصورة الحالمة التي يرسمونها لمعشوقهم، هم
يريدونه دائما بهيا زاهيا متأنقا متألقا.. ولا يقدرون على رؤية خدش صغير في لوحة
الوطن الجميلة.
فراس البعيد عن الوطن الآف الأميال.. الذي تفصله عن عُمان بلاد
وصحاري شاسعة، أشعر أنه يسكن في كل شبر في عُمان، هو يتابع كل اخبار الوطن، ويفتش
عن كل مستجداته، يعرف ما لا نعرفه نحن المقيمين فيه، إلا بعد حين من الزمن، ذلك
إنه ينام على صوت وطنه، ويصحو على صورته..
اخبرني أنه يحادث جده المقيم في عُمان بشكل شبه يومي ولفترات طويلة،
قال انه لا يمل من الحديث معه.. كما أنه يتواصل مع العديد من اصدقائه ومعارفه في عُمان،
ويتابع اخبارهم.
بين الدراسة .. والعمل المسائي .. وبين عشق المسرح .. والاشتغال
عليه ... وبين واجباته الاسرية واهتمامه بعائلته .. بين كل ذلك تبرز عُمان بصورته
المتأنقة البديعة ، لتشكل حضورها ، وتفرض وجودها .. والفتى بين عشق ديار أهله هذه التي
يدرس فيها ، وديار يحن إليها قلبه .. ويجد نفسه الأقرب هنا تارة ، والأقرب هناك
تارة أخرى .. لكن قلبه ينتصر دائما لوطنه الغالي .. فلا يرتضي عنه بديلا .
لكنني مع كل تعمقي في شخصية فراس ، ومعرفتي بهواجسه وأفكاره ، مع
كل نجاحي في قراءة افكاره ورؤاه .. لم أستطع الوصول إلى اجابة لسؤال وضعته على
طاولة المقهى .. وألقيته على مسامع فراس.. ولم يجب ، وكنت اتوقع ذلك ، فالسؤال
الذي تشكل عليّ أنا الذي يزعم حدس فهم الآخر ، لا أدري أن كان نابع عن حقيقة ، أم مجرد هواجس وظنون .
كان فراس وهو يجلس أمامي ، ويتحدث عن أحلامه وأمانيه ، شخصا مختلفا
عن فراس الذي أقرأ كلماته في مواقع الانترنت المختلفة، ولا أعرف من أي ناحية ،
لكني أرى في شخصية الكاتب قوة وشكامة وسطوة لا ألمسها في الجالس أمامي بعفويته وبساطته
ونقائه وكل الصفات الاخلاقية الجميلة .. دون أن ألغي هذه الصفات الجمالية من
فراس/الكاتب.
فراس/ الانسان الذي التقيته وجها لوجه في الرباط، انسان وديع،
يحاول أن يوفق متطلبات حياته، ويقتفي أثر أحلامه، هو يريد أن يكون كل شيء، ليس
ليحقق لنفسه مجدا أو مكانةً بارزة، وإنما ليحقق للحلم الذي يسعى إليه المجد والريادة..
وليس حلمه أكثر من أن ترفع ستارة المسرح على عمل فني يحمل بصمته، ويسمع تصفيق
القاعة.
ليس حلمه أكثر من أن يكون شباب وطنه في أمن وسلام، ويعيشون في حرية
وكرامة، وأن يسمعهم الوطن.. كما هم يسمعون له، وهو وان اختلف مع أحدهم أو بعضهم
فانما اختلاف اراء لا اختلاف ود واحترام.
وكم من بيننا من يختلف معك في الرأي.. فتفقد بعدئذ وده وتقديره،
ولا يكون لك عنده شأن بعد ذلك، قرأت له ذات مرة غضبه من صديق له، وفي اليوم التالي
وجدته يشاكس ذلك الصديق ويتحاور معه، وحين سألته عن ذلك، قال لي إنه لا يحمل ضغينة
لأحد، وإن قلبه خالي من الكره، إلا لمن يزرع الكره.
وأعترف هنا .. رغم سني الأكبر من فراس، إلا أنني تعلمت منه الكثير
، أولها الاخلاص للهدف الذي نسعى إليه ، وتاليها تطهير قلوبنا من الضغينة والكره
لكائن من كان .. واشياء أخرى لا مجال لتعدادها.
في الليالي التالية، صار مقهى الفن مقصدا لي .. ارتاده وحيدا أو
بانتظار فراس ، كنت حين أطلب قهوتي ، أقوم لأحملها بنفسي ، وأجلس في الطاولة أراقب
المارة الذي يعبرون الشارع محملين بحكاياتهم وهمومهم الحياتية..
في احدى الليالي كان المطر يسكب في الخارج ، ولم يثنني ذلك عن أرتياد
المقهى ، حملت نفسي وجلست في الطاولة التي أحب ، وكتبت لفراس كي يحضر .. لكنه تأخر ، اخبرني
تاليا إنه نام نوم أهل الكهف !.
أسترجعت في تلك اللحظة وأنا انظر للمطر والمقهى الذي بدأ مهجورا
إلا من الفتاة العاملة في المقهى ، وشاب آخر اعتقد إنه على صلة بها من حديثهما معا
، قصيدة (ذاكرة المقهى) للشاعر البحريني قاسم حداد:
مقهاكَ في انتظارك
يلقاك بمقاعده الوالهة
قادمة من الغابة،
خشبٌ طازجٌ في انتظار تعبك الغليظ
يُمَسِّدُ لك وركيك وكتفيك بالعصيِّ الطريّـةِ
ويشحذ كاحليك بالبوص الليّن،
يحضنك فتنسى،
مقهاكَ، وحيدٌ مثلك
وحيدٌ بدونك
منسيٌ في وحشة الرصيف
محتشدٌ بأحلام الانتظار والفقد
جراحُ قلبِه مندلعة في لامبالاةِ العابرين
يُحدِّقُ في خطواتهم
منتظراً يداً تحطُ على ذراعه المتروكة
مقهاكَ
ينتظرك
مثل غابةٍ مكنوزةٍ بطيور الوحشة.
ينتظرك
مثل غابةٍ مكنوزةٍ بطيور الوحشة.
كانت جلسة المقهى تلك باعثة على تفتح أزاهير الكتابة لدي.. شعرت أنني
اثمر كلمات وأسابق نفسي لكتابتها على شاشة هاتفي، كانت الأفكار الجميلة تنساب من
كل أفق، وأنا حائر من أي يمّ أرتشف!.
ومضيت كما عادتي اتسكع عائدا إلى الفندق، وهذه المرة كان المطر
الذي بدأت حدته تقل، قد اضفى جمالية بديعة، شعرت به يغسل قلبي من تعبه وهمومه،
ويؤنسه من وحدته.. ولم أشعر بطول الطريق وامتداده وحتى سكونه، فقد كان قلبي خفيفا
يكاد يطير في عوالمه.
في لقائي الأخير مع فراس ، في المقهى التقطت صورة تذكارية لنا ، ثم
خرجنا لنتوادع .. كان وداع سريعا ، قلت له أنني لا أحب هذه اللحظات ، ولا أريد
لكلمات الوداع أن تخرج من فمي، قال إنه سيأتي إلى عُمان في بداية العام الميلادي
الجديد في أجازة قصيرة ، وتمنيت لحظتها أن يتحقق اللقاء ، لكنني قلت له : عليك أن
تجيب على هاتفك حين اتصالي بك يومها .. ضحكنا قليلا .. قبل أن نفترق ويمضي كل منا
إلى سبيله .
واصلت المشي في طريقي دون أن التفت للمقهى الذي صار وحيدا .. وآخاله
يئن لفراقنا .. وكأني أسمع نشيج الطاولة التي جلسنا عليها ... واستمعت لذكرياتنا ..
ولحب الوطن المسكون في اعماقنا .. وكأن الحنين صب عليها فضجت به لحظة الفراق ..
في الطريق وصلتني تغريدة من فراس تقول:
سنلتقي يا صديقي سنلتقي و لو على أرض لا تتسع لعصفور واحد .
مسقط ـ في 17 نوفمبر 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق