أن تأتي إلى المغرب على وقع حلم قذفته في ليلة دون أن تدري مستقره، أن تجوس شوارعها، وتتسكع في أزقتها، على جناح أمنية أطلقتها ثم لم تدر أي ريح حملتها، أن تسافر إلى بلاد مثقلا بالحنين، ومتدثرا بالشوق، فلا مناص أن تكون رحلتك هذه من أجمل الرحلات.
تتذكر وأنت تحلق بين السماء والأرض، حين قلت قبلها أن أمنيتك أن تزور هذه البلاد، وترحل إليها في أيام غير معدودة، وتتنقل بين مدنها وقراها، حتى تشبع منها.. وتتذكر كيف نمت ليلتها، على وسادة حلم يعيد صدى الأمنية إليك، وحين تستيقظ، تجدها قد انبلجت كفلق الصبح.
بين الدار البيضاء والرباط وفأس وطنجة ومراكش ومدن وقرى أخرى تسكن بينها.. عشت ثلاثة أسابيع متنقلا كمن يغرف من رحيق زهرة ليحلق إلى زهرة أخرى، كانت المدن المغربية تتبارى في إبداء مفاتنها، وكشف محاسنها، وكنت أنا أهيم في دروبها، أفتش عن الذين عبروا من قبلي هذه المدن، وهاموا بها.. وغرسوا جذورهم في هذه الأرض، واثمروا هناك.
لا أعرف لما قفزت المغرب في خاطري ذات ليلة، وأنا أبوح عن شوق لسفر آخر، سفر ينتشلني من سجن الروح ومن حياة بدت رتيبة دون أن تحلق في فضاءات رحبة.. وتنشر اجنحتك بين السماء والأرض.. أشتقت للسفر، وحددت هذه المرة ما أريد، وكيف أريد، قلت أريد أن أسافر، وقلت إن وجهة الطائر الحالم فيّ هناك في أقصى بلاد العُرب، حيث تطوان التي تغنينا بها، وطنجة ومراكش والرباط.. وقلت إن رحلة كهذه لا أريد لها أن تنتهي.
لكن الرحلة انتهت.. وأنا ما رويت عطشي منها بعد، وكما كنت أقطع الشارع في مسقط في طريقي إلى المطار، عدت في اللحظة التالية اقطعه، وقد عدت محملا بالحنين إليها.. كانت الساعة حين سفري تقترب من الثالثة فجرًا.. وكانت تقترب من الرابعة فجرًا حين عودتي بعد ثلاثة أسابيع.. الأيام تلك جلها مضت كما مضت الساعة بين الثالثة والرابعة فجرا.
كان مطار مسقط كما هي عادته ينشط ليلا، ليودع المسافرين ويستقبل الواصلين، كنت والصديق فيصل العلوي نحمل أمتعتنا، ونحن نتأهب لسفر يكتب ذكراه في حياتنا، ومعنا كان مجموعة من الأصدقاء، اصافح وجوههم للمرة الأولى، والبعض الآخر عرفته من اسفار سابقة..
وكما هو حال السفر دائما، يكون مربكا للبعض، وصادما للبعض الآخر، فإن من المألوف في هكذا مواقف أن ينسى البعض جواز سفره، أو أن ينسى توقيت السفر فيأتي متقدما أو متأخرا.. كنت أرقب ذلك وابتسم من الموقف الذي جعل أحد زملاء الرحلة يحضر جواز سفر غير جوازه، لم يفطن إليه إلا عند وزن الأمتعة، واستكمال اجراءات الرحيل.. ثم تداركه بإتصال هاتفي وجاء الجواز المطلوب بعد برهة زمن لم تطل.
كانت حقائبنا مجتمعة قد تجاوزت الوزن المسموح به، ولم يكن أمامنا إلا التضحية ببعض الحمولة، وحمل الباقي على أكتافنا.. كنت أحمل مؤلفات عدة خلتها ستكون ونيسي في سفري هذا، وزادي حين يطيل بنا السفر، ولا أجد من اتحدث معه..
***
كان زمن الرحلة يمتد لثماني ساعات تزيد قليلا.. في فترة التوقف بين محطة وأخرى، وكان النهار قد مد خيوطه الأولى، والشمس تأهبت للشروق حين حلقنا ثانية من دبي بإتجاه الدار البيضاء، مضيفة الطائرة تعلن أن الرحلة ستسغرق ست ساعات ونصف وسنطير على ارتفاع (...) ألف قدم بسرعة (...) ميل في الساعة، لم أهتم بالأرقام فقد كنت أرقب السماء خلف النافذة، وخيوط الصباح تنشر الأمل على الأرض الفسيحة، وبينهما كنت أنشر أجنحتي وحيدا أرسم على السحب المتناثرة أحلامي الملونة..
السفر فرصة للتأمل، والاختلاء بالذات، اشتقت إلى نفسي، كادت أن تتوه مني في زحمة الحياة، وبالكاد وجدتها، وهاأنا أمامي ست ساعات أو تزيد، أجلس معها وحيدا، اسمعها وتسمعني.. لا شيء سيقطع خلوتي بها، حتى صوت المضيفة الحسناء، وهي تمد لي بقائمة الطعام المقدم، أو تسألني عما أود شربه من العصائر والمشروبات المقدمة..
ـ لا شيء.. قليل من الماء يكفي!
لكنني وجدت أصابعي، تشير إلى عصير أحمر قان، اشتاقت له نفسي وقررت تنفيذ رغباتها.. وطلبتها ممزوجا بقطع الثلج.
كان طعم عصير الطماطم المثلج في فمي، يحفزني للتأمل أكثر، والرواية التي قررت استكمالها في هذه الرحلة، بقيت مفتوحة على الصفحات الأولى، فيما شاشة الفيديو قبالتي، تعرض فيلما عربيا كوميديا.. لم يضحكني للأسف!.
كنت أتخيل متاهات الرحيل، وكيف أن الأرواح تحلق دون أن تدري أن ثمة رحيلا أبديا آخر ينتظرها.. ولعله يكون قريبا طالما أنها معلقة على كف الهواء بين السماء والأرض، وهاهي الوجوه الصامتة في هذه الرحلة، تنظر للأبدية دون أن تعرف أي لحظة فاصلة، تقطع الخيط الواصل إليها..
في محطات السفر، كما في الحياة، تتصافح الوجوه، وتسافر معا من محطة إلى أخرى، ينزل أناس هنا، ويصعد أناس أخرون، وتستمر الرحلة، غير أن في السفر يعرف المرء أي محطة تالية سينزل إليها، لكننا في الحياة، لا نعرف في أي محطة سنتوقف، وعلى أي رصيف سنمشي.
كانت كتل السحاب قد بدأت تتلاشى، والسماء اتسعت، والكتاب المفتوح أمامي على حالته الأولى، وخط الطيران يقول إن مسار الرحلة ما زال طويلا.
أطلب عصيرا آخر..
أشربه بمهل، ثم أقوم من مكاني، أمر على أمكنة رفقاء الرحلة، وأفتش بدءا عنهم، في أي الكراسي يسكنون، أنظر لحال بعضهم وقد أستسلم للنوم، والبعض يثرثر، وآخر يتصفح كتابا، ألقي عليهم التحية، من مكاني الذي أنظرهم فيه، وأعود لمكاني، أعاود تقليب قنوات الأفلام المعروضة، لا شيء يعجبني، استمع لمعزوفة موسيقية، وأستسلم بعدها للنوم..
أفق من نومي على سؤال المضيفة، عن اختياري من قائمة الطعام المقدمة.. أنظر في قائمة الطعام.. لا شيء يعجبني، تحثني المضيفة على الاختيار، أنظر إليها، ثم أسند رأسي على المقعد، أقول لها: أحضري أي شيء.. أي شيء!.
ترمقني بارتياب، وتمضي لحال سبيلها.. تمضي كما يمضي بنا هذا الطائر، وكأنه واقف دون حراك، لولا السحب القليلة التي بدت تظهر أسفلنا، وهي تمر مر الجبال.. والشاشة المنصوبة أمام مقاعدنا تشير إلى حركة الطائر، وسرعته، وأين موقعنا في خارطة متداخلة التضاريس.
تأتي المضيفة بعد برهة من الزمن، تدفع عربة الطعام أمامها، توزع الطعام على المسافرين، تصل إلي، تبسط مسند مقعدي، تضع عليه فوطة بيضاء، تضع أطباق الطعام، وتسألني عن شرابي.. أشير إلى علبة مشروب غازي، تفتح العلبة، وتسكب محتوياتها في كوب بلاستيكي، تناولني أياها.. وتغادر دون أن تنتظر مني كلمة شكر، أو حتى ابتسامة.
أنظر لمائدتي.. وأنا أحملق في المسافرين، الذين انشغلوا بتناول طعامهم، وكأن بعضهم لم يأكل منذ أيام، أو لم يفارق أحبابه، ولم يشتاق لآخرين في انتظاره.
وكما جاء الطعام.. عاد ثانية، وعدت أجوب ممرات الطائرة، أطمئن على أصدقاء الرحلة، لكن المطبات الهوائية، أعادتني لمقعدي، وكان أن لزمته حتى لحظة الوصول..
كانت الدار البيضاء، تبدو من الأفق لوحة سريالية غير مكتملة المعالم، مباني متداخلة كأنها مكعبات لعب الأطفال، وتداخلات بين اليابسة والماء، هنا يفتح ميناء المدينة ساعديه ليستقبل البواخر المحملة بالبشر والحجر، وهناك على المقربة تتضح معالم مسجد كبير، بمناراته الشاهقة، والطرق كأنها أخاديد في وجه المدينة، أما باقي التفاصيل فتبدو متناهية الصغر.
كنا نقترب، ولوحة المدينة تتضح شيئا فشيئا، رأيت وجوه المسافرين، وهم يطلون من نوافذهم، يتحينون لحظة الوصول، ويسابقون الشوق لمعانقة دروب المدينة، كانت المضيفات تمر علينا، المرور الأخير للتأكد من ربط أحزمة الأمان، واعادة المقاعد إلى وضعها الطبيعي، وكان العطش حينئذ قد بلغ مبلغه مني، لكني لم أطلب الماء.. كان عطشي من نوع آخر.. عطش قرأته المضيفة في عيني.. وابتسمت!.
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق