أفتح
ذراعي.. وأحضن موجة الريح القادمة نحوي.. أمتلئ بنسيمها، وأرسل بصري للبعيد..
أعانق الصورة بكل تفاصيلها وملامحها.. أتنفس بعمق، أتأكد أن النسيم هنا، ليس كأي
هواء في مكان آخر.. في أنفاسه رائحة المجد، والصمود، وفي عبقه حكايات العزة
والإباء.. وبين شذراته أمل قادم، يمسح الدمع عن المدينة، ويعيد البسمة إليها بعد
حزن طويل.
أقف
الآن على مشارف القدس، متكئا على سور صغير يحيط بربوة، تطل على الحرم الشريف، وعلى
المدينة القديمة، والمقبرة اليهودية، أستعيد الحلم الذي قذفني إلى هذا المكان،
وأغبط نفسي على هذه اللحظة التاريخية في حياتي، وحدها هذه الساعة من تمنيت أن أكون
أنا، لا أحد سواي، أستشعر كل التفاصيل الجميلة حولي، لتكون ذاكرة أركن إليها كلما
أهتزت بي الحياة، وشقتني الأيام..
كل
هذا الضوء لي ..
أمشي؛
أخف؛ أطير ثم أصير غيري في التجلي ..
لا
شيء في الحياة يعادل أن تناظر حلما يتحقق أمام بصرك، وأنت جزء منه، تدخل بوابة
الحلم الذي تدرك أنه عصي، لكنه ليس بمستحيل، الأيام وحدها قادرة على تحويل
المستحيل إلى حقيقة، والحلم إلى واقع، وتأخذك في مدارات لا تعرف نهايتها، ثم تفتح
لك بوابة في أقصى المسار، وحين تلج المكان، تجد حلمك يسكن هناك، ثم تسكن أنت إليه.
ماذا
يمكن أن تقول في حضرة القدس !!.
وأي
الكلمات تسع وصفك هذه اللحظة، وعلى أي التعابير تتوسد حروفك..
تحاول
لملمة الصورة الماثلة أمامك، تصنع منها مشهدية الذكرى، وتحج إليها كلما اشتقت إلى
هذا المكان، وحدثتك نفسك بالسفر إليه..
***
فرحا
بشيء ما خفيٍّ، كان يحملني
علي
آلاته الوتريِّة الإنشاد . يَصْقلني
ويصقلني
كماس أَميرة شرقية
ما
لم يغَنَّ الآن
في
هذا الصباح
فلن
يغَنٌي.
***
لم
يكن صباحا اعتياديا في رام الله، فالفتية الذين جابوا البلاد الفلسطينية المحتلة،
والذين ذرعوا نابلس وبيت لحم والخليل وأريحا وغيرها، الذين وقفوا على الحواجز
الاسرائيلية، وانتظروا إذن الجندي الاسرائيلي للمرور إلى الجزء المشطور من الوطن
الفلسطيني، الذين عايشوا حرق الزيتون، وهدم المنازل، وقتل العزل، الذين شاهدوا
المأساة الفلسطينية بكل تفاصيلها، هم اليوم على موعد استثنائي، وفرح أكبر من
قلوبهم يسكن بين الصدور..
كانت
روزنامة الصباح تشير إلى أنه يوم الجمعة.. ولا يهم التاريخ التالي لذلك، وكان
برنامج الزيارة يقول إن موعدهم القدس.. وليست القدس عنهم ببعيد، لكن الجندي
الاسرائيلي حال بينها وبين من يشتهي زيارتها، ويتوق إلى الصلاة في حرمها الشريف..
لا يمكن أن تطأ أقدامك القدس، حتى لو كنت ابن هذه الأرض،
وعشت فيها ردحا طويلا من
الزمن، ونبتت جذورك فيها، وتشعبت أغصانك، ولم تثمر بعيدا عنها، لن تزور المدينة،
دون الحصول على تصريح الزيارة من المحتل، وتقف على الحواجز الحديدية، ويتم تفتيشك،
وحتى إذلالك، وقد يؤذن لك بالدخول، وقد تعود أدراجك من حيث أتيت..لا يمكن أن تطأ أقدامك القدس، حتى لو كنت ابن هذه الأرض،
القدس..
هذا السجن الكبير، الذي يمارس الاحتلال فيه كل سطوته وجبروته وطغيانه، هذه التي
يشرد أهلها، ويضايق سكانها، ويهدم منازلهم، ويقطع أوصالهم، تبقى عصية على الانهزام،
والخضوع لإرادة المحتل، مرفوعة الرأس، شامخة.. صامدة.. راسخة كما أشجار الزيتون
المحيطة بها، وأشجار اللوز السامقة.
كان الموعد إليها بعد الفجر مباشرة..
كان الموعد إليها بعد الفجر مباشرة..
التقينا
على مائدة الافطار كعادتنا، والشوق هذه المرة، يسبقنا إلى وجهتنا، كان الفرح يلون
وجوه الرفاق، فيما الأسى والألم يغلف وجوه اصدقائنا الفلسطينيين الذين كانوا معنا
في زيارتنا إلى المدن الفلسطينية، فأكثرهم محروم من زيارة مدينة القدس، كما حال
أبو يزن هشام واصف الذي غادرنا في نابلس، ليرتاح إلى بلدته الصغيرة هناك.
كانت
الحافلة التي وقفت قبالة الفندق ذلك الصباح، مختلفة عن الحافلة التي دأبت على
أخذنا في جولاتنا السابقة، وكذلك كان السائق، الذي تأكد من وجودنا فردا فردا، وأكد
على حملنا تصاريح دخول القدس، وجوازات السفر، ثم راح يذرع شوارع رام الله، حتى
حاجز قلنديا..
كان
جدار الفصل العنصري يحاذينا، ونحن نعبر في طريق ممتلئة بالناس والمركبات، في نقطة
قريبة من الحاجز، قال لنا السائق إن علينا أن نترجل من الحافلة، ونمشي حتى الحاجز،
وهناك ننهي إجراءات التفتيش والدخول، ونلتقي به في الطريق التالي..
كان
جدار الفصل العنصري قريبا منا، يطاول بصرنا، ويفتح ذراعيه ليطوقنا من كل صوب، كان
بشعا، لكن روح التحدي جعلته يحمل صور أبطال فلسطين ورموزها، وقادة المقاومة،
وكلمات محمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان وتميم البرغوثي، وصورة القائد الرمز
ياسر عرفات، والقائد الأسير مروان البرغوثي، وشعار حركة المقاومة الاسلامية
"حماس" وحركة فتح، وفصائل فلسطينية واسماء الشهداء، كلها صنعت من الجدار
العنصري ملحمة للصمود والتحدي..
كانت الجدران تستعصي على الفهم
كانت الجدران تستعصي على الفهم
وكان
الأسبرين
يرجع
الشبّاك والزيتون والحلم إلى أصحابه
كان
الحنين لعبة تلهيك عن فهم السنين.
***
أقف
قريبا من الجدار العنصري، أنظر للألم المرسوم عليه، الألم الناطق بالمأساة التي
يعيشها الفلسطينيون في الضفة الغربية، مأساة تتعدى الوصف، كل الحكايات التي ستقال،
لن تستطيع أن تنبض بالوجع الحقيقي الذي يسببه هذا الجدار البغيض، ليتعدى من مجرد
حصار وخنق إلى كونه سداً في طريق الحلم ومخالفة صريحة لحق الانسان في الحياة.
أريد
أن أسطر كلماتي على الجدار، أود أن أرسم الحروف التي تصارعني لتنهش هذا المارد
الجاثم على صدر الانسان الفلسطيني، لكن سائقنا ومرافقنا إلى القدس، يقول إن علينا
ان نسرع للوصول إلى الحاجز، أنظر إلى صورة الشهيد ياسر عرفات التي طبعت على
الجدار، وهو يرفع اشارة النصر، أسمع لحظتها عبارته الخالدة: إن شاء الله سنصلي
سويًا في القدس الشريف، شاء من شاء، وأبى من أبى.
وصورتك محفورة في القلب، نحملها معنا إلى القدس، سنصلي سويا أيها القائد، أنت في عليائك هناك، ونحن هنا، تتلاقى أرواحنا، وتسبح بحمد الله، وتدعو لخلاص أولى القبلتين وثالث الحرمين من براثن اليهود المعتدين، وكلماتك ترن في اسماعنا، تصعد بنا نحو الصخرة المباركة، قريبا من الأقصى، نتأمل جموع المصلين التي ملأت الساحة الفسيحة، ونندس بينهم، نبتهل في الصلوات، وأرواحنا معلقة في قناديل تتأرجح داخل المسجد.
وصورتك محفورة في القلب، نحملها معنا إلى القدس، سنصلي سويا أيها القائد، أنت في عليائك هناك، ونحن هنا، تتلاقى أرواحنا، وتسبح بحمد الله، وتدعو لخلاص أولى القبلتين وثالث الحرمين من براثن اليهود المعتدين، وكلماتك ترن في اسماعنا، تصعد بنا نحو الصخرة المباركة، قريبا من الأقصى، نتأمل جموع المصلين التي ملأت الساحة الفسيحة، ونندس بينهم، نبتهل في الصلوات، وأرواحنا معلقة في قناديل تتأرجح داخل المسجد.
أرفع
جبهتي، رغم الانكسار الذي يسكنني، أرى حنظلة يدون حكايته على الجدار، هنا صاحبه
ناجي العلي، ومحمود درويش، وياسر عرفات وجيفارا وحكاية الثورة الفلسطينية التي لن
تهدأ، ولن تستكين طالما بقي شبر في الأرض الفلسطينية محتلا..
طفل يكتب فوق جدار
طفل يكتب فوق جدار
طفل
... نبتت بين أصابعه النار
أيتها
الخوذات البيضاء حذار
من
طفل نبتت بين أصابعه النار
من
طفل يكتب فوق جدار
يكتب
بعض الاحجار
وبعض
الأشجار
وبعض
الأشعار.
نقترب
من الحاجز، نتأكد من أوراق العبور، وجوازات السفر، نتأكد من مشاعرنا أن لا تنفرط
في هذا المكان، فترد خاسرة، نقف خلف حاجز حديدي متشابك القضبان يفتح ويغلق بشكل
آلي، عوض باقوير.. مصطفى أحمد.. عاصم الشيدي.. حاتم الطائي.. حمود الطوقي والبقية،
نتوالى على الدخول لنقف أمام المجند الإسرائيلي وهو ينظر إلينا الواحد تلو الآخر،
من خلف نافذة زجاجية، ويتأمل إذن العبور، وجواز السفر، ثم يتلكأ في ختم الورقة،
ويطرح أسئلة من قبيل، من أين أنتم، وما طبيعة زيارتكم، هل تحمل أي سلاح؟، ثم يعيد
النظر في صورة الجواز، وإلى صورتنا، ويقلب الجواز ورقة ورقة.. وبعدها، يتم تحويل
من يريد استفزازه أكثر، إلى الغرفة المجاورة، وهناك يتولى جنود آخرون التحقيق في
هوية العابر، ومن أين هو، وما تاريخ ميلاده، وجنسيته، وطبيعة زيارته، رغم أن ذلك
مشار إليه في إذن العبور.. ولكنها المهانة التي علينا أن نتقبلها طالما أننا بهذا
الضعف.
يدخل
عوض باقوير أولا، ينظر إليه جندي الاحتلال، فيقرر تحويله، إلى الغرفة المجاورة
للتحقق من شخصيته، بعد زمن تجاوز العشر دقائق، يخرج عوض، وتفتح البوابة لشخص آخر
منا، خمس دقائق، ثم ثالث وهكذا.
يتسلى
الجندي الإسرائيلي، وهو يمارس سطوته في الحواجز، وهو يعرف كما الذين وضعوه في هذا
المكان، إنها تثير سخط وحفيظة الفلسطينيين والعرب الذين يقفون طوابير طويلة،
بانتظار إذن العبور، ويعرفون كم الغضب الذي يسكن النفوس، وهي تقف خلف القضبان،
تكتم غيظها، حتى لا يتعكر مزاج الجنود، فيغلقون البوابة، ويمنعون العبور.
أخبرنا
عوض أن الوشاح الفلسطيني الذي لبسه، كان سببا في توقيفه فترة طويلة واستفزازه
بالاسئلة.. كان الجنود يريدون طمس الهوية، حتى من الأوشحة التي نعلقها، ومن
الكلمات التي ننطقها، كانت دولتهم المحتلة تريد محو الدولة الفلسطينية من الوجود،
ولذلك يتفننون في ابتكار أساليب التعذيب والاستفزاز بحق كل من يحمل شعارا أو خارطة
فلسطين، أو أي رائحة منها، ولو استطاعوا سبيلا لنزع اسمها من صدورنا، لفعلوا ذلك.
عدنا
للحافلة نشق الطريق إلى القدس، والأوشحة التي خبأناها عن عيون الاحتلال، عادت
لتزين جيادنا، ونغني معا:
يا
أطفال بابل
يا
مواليد السلاسل
ستعودون
إلى القدس قريبا
وقريبا
تكبرون
وقريبا
تحصدون القمح من ذاكرة الماضي.
***
دون
الحاجة إلى قراءة التاريخ، والنبش في صفحاته، كنا على يقين أننا ضيعنا الطريق إلى
القدس، وأننا سلكنا مسارا آخر لتحرير فلسطين، يمر باشعال الفتن، والتآمر على بعضنا
البعض، ونشر الفوضى والدمار في البلاد العربية، الجيوش العربية ضلت الطريق إلى
فلسطين، وتوجهت باسلحتها إلى صدر المواطن العربي الذي طالب بالحرية والكرامة على
أرضه، لم تعد فلسطين القضية الكبرى للأنظمة العربية، أصبحت مع الثورات العربية ـ
بكل المسميات التي تحملها، أو الأسباب التي دعت إلى قيامها ـ نسيا منسيا.
نأخذ
الطريق إلى القدس، الطريق التي سجلت حضورها في التاريخ، هنا سار من قبلنا قادة
كبار، وتحركت جيوش جرارة، على هذه الدروب نزح مئات الآلاف من الفلسطينيين بعد
طردهم من أرضهم وديارهم إبان نكبة 1948، وهنا كتبت الأرض عشرات المجازر والفظائع
وأعمال النهب وهدم القرى وتدمير المدن وتحويلها إلى مدن يهودية.
يشق
الطريق منطقة القدس شمالاً بطول يصل حوالي (9 كم) ويلحق أضرارا فادحة بضاحية بيت
حنينا الواقعة إلى الشمال على طريق القدس ـ رام الله حيث يبدأ الطريق الالتفافي
السريع رقم 60 من القدس لينتهي إلى الجنوب الغربي من رام الله عابرًا أراضي قرى
بير نبالا وجديرة ورافات ويربط راموت والمستعمرات المجاورة بالقدس.
كنا
نسير والمستعمرات الاسرائيلية تتوالى في طريقنا بمسمياتها البغيضة، تلتهم الأرض
والهوية وتطمس التاريخ الفلسطيني، لتكتب تاريخا مشوها، وأحداثا مزيفة، تنتصر لفكرة
دولة الاحتلال، كنت أوزع النظرات يمنة ويسرة، فهناك مستعمرات محصنة، أقيمت وفق
نظام هندسي يحاكي المعمار الأوروبي، وهنا عشوائيات يقطنها من بقي متشبثا على أرضه،
وما بينهما بون شاسع، لكن مع ذلك يظل من بقي في القدس الأسعد حالا عمن توزع بين
الشتات.
كانت
اللافتات تشير إلى أننا في "أورشاليم"، وأن إسرائيل أحكمت قبضتها على
المدينة المقدسة وما حولها، وغيرت امتدادها من شرق غرب إلى شمال جنوب, واستكملت
سيطرتها على المواقع الأثرية والحضارية العربية المحيطة بالقدس والخليل وبيت لحم،
وأصبحت التلال الأثرية التي تقع شمال القدس باتجاه رام الله ذات موروث ثقافي
يهودي، وهذا برز في (تل الفول) وتل النصبة والنبي صموئيل، وخرب كثيرة تقع في أراضي
قرية عناتا وحزما وقرى العيزرية وأبو ديس والزعيم بالإضافة إلى موقع مستعمرة
معاليه أدوميم التي في الأصل تعرف باسم دير المرصرص والذي كان ديرًا قائما في تلك
المنطقة، في العصر البيزنطي.
نقترب من هوى الفؤاد، نعبر قريبا من الجامعة العبرية، فمستشفى هداسا، يحدثنا مرافقنا عن التقدم التقني والعلمي والطبي لإسرائيل، ويسرد تاريخ الجامعة العبرية وأبرز من تخرج منها، لا أهتم للحديث، فما أقيم على باطل فهو باطل، لا أخفي شعوري في تلك اللحظة أنني تمنيت أن تزول هذه الجامعة من الوجود، وأن يختفي المستشفى معها، فهذه الأرض عربية فلسطينية، وستكون كذلك شاء من شاء وأبى من أبى.
نقترب من هوى الفؤاد، نعبر قريبا من الجامعة العبرية، فمستشفى هداسا، يحدثنا مرافقنا عن التقدم التقني والعلمي والطبي لإسرائيل، ويسرد تاريخ الجامعة العبرية وأبرز من تخرج منها، لا أهتم للحديث، فما أقيم على باطل فهو باطل، لا أخفي شعوري في تلك اللحظة أنني تمنيت أن تزول هذه الجامعة من الوجود، وأن يختفي المستشفى معها، فهذه الأرض عربية فلسطينية، وستكون كذلك شاء من شاء وأبى من أبى.
نتوقف
برهة من الزمن لزيارة مستشفى المقاصد الذي أقامته جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية
على جبل الزيتون، هذا المستشفى الخيري الذي يعتبر قلعة وطنية شامخة، يقدم خدماته
الطبية إلى جميع أبناء الشعب الفلسطيني دون تمييز سواء أكانوا من قطاع غزة أو من
الضفة الغربية أو من القدس الشريف منذ عام 1968م.
من شرفة في الطابق الثاني في جناح التنويم في مستشفى المقاصد، أناظر المسجد الأقصى وما حوله، الآن بات حلم الصلاة فيه أقرب من حبل الوريد.
من شرفة في الطابق الثاني في جناح التنويم في مستشفى المقاصد، أناظر المسجد الأقصى وما حوله، الآن بات حلم الصلاة فيه أقرب من حبل الوريد.
للحكاية بقية
أقرأ :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق