الخميس، 12 ديسمبر 2013

على هذه الأرض ما يستحق الحياة ( 3 )



           


أفتح نافذة على رام الله..

من شرفة في الطابق الثالث في فندق جراند بارك على تلال ميسون، أطل على ما أريد.. أطل على شجر يحرس الليل من نفسي.. ويحرس نوم الذين يحبونني ميتا.. أطل على الريح.. تبحث عن وطن الريح في نفسها.. أطل على رام الله التي بدت في تلك الساعة المتأخرة من الليل هادئة وادعة، لا حركة في الشارع، ولا أضواء مركبات قادمة من البعيد، ولا حتى نافذة مفتوحة، غير نافذتي المطلة على هذا السكون..

كان الليل قد أستراح في هذه المدينة، قبل أن يشق طريقه، نحو مدينة أخرى، ويسامر الهائمين، وكانت نافذتي المشرعة على البيوت والدور السكنية العالية، وعلى الشوارع، والتلال البعيدة، وعلى الأحجار التي هدأ ضجيجها.. تفتش عن صورة تهز القلب، وتسح الدمع الذي استكان واستراح.

لا شيء يبعث على البكاء..

أنظر إلى رام الله، وكأني أنظر إلى أي مدينة أخرى، الحرب وضعت أوزارها، فكأنها لم تَمُر من هذه الدروب، ولم تسكن تلك البيوت، وكأن تخوم المدينة لم تسطر بطولات نضال وكفاح، وكأن أشجار البرتقال لم ترو بدماء الشهداء.

لم أبكِ..

أنا الذي صرخت في مكالمة هاتفية: إنها رام الله يا أمي، أني أراها، وألمسها، وها أنا أسير في دروبها..

كانت أمي وجلة وهي تسمع بنبأ سفري إلى فلسطين، ولم تفتأ عن السؤال عني حتى لحظة وصولي.. طمأنتها بأن رام الله صبية، وهي كما المدن العشيقة، لا شيء مختلف هنا، حتى تسح جزعها عليّ، وتبكي على سجادة صلاتها..

ساعة.. ساعتين.. ثلاث مرت وخيوط الفجر بدأت تضيء العتمة، ومن البعيد أمكنني رؤية بضعة جنود يتهيئون لبدء مناوبتهم الصباحية، لم أتبين في البدء ما إذا كانوا جنودا فلسطينيين أم محتلين، رغم أن أسد شجاع قال لي: أن حفظ الأمن هنا، بات من إختصاص السلطة الفلسطينية..

على مائدة الإفطار، قال لي الرفاق: إنهم لم يناموا الليلة، أكثرهم فتح نافذته، وتأمل رام الله، وبعضهم خرج هائمًا في شوارعها، يفتش عن صورة للحياة.. الشوارع التي عدنا إليها بعدئذ، تحرسنا شمس رام الله، ونسيمها البارد الذي داعب النعاس في جفوننا..

كنت أتأمل الدروب وقد كشفت عن ملامحها، وبانت معالم المدينة، وأمكنني رؤية العابرين في الطرقات، والذاهبين إلى الإتجاهات الأربعة، ومع كل ذلك لم أبكِ..

أسواق ومحلات تجارية استعادت عافيتها، وطرق معبدة، ومركبات حديثة، وهنا أطفال يذهبون إلى مدارسهم، طفلة تمسك بيد رفيقتها، ويعبران الشارع معا، المركبة القادمة، تتوقف ريثما تعبر الطفلة الطريق، رجل الأمن الفلسطيني، يشير إلى المركبة بالتحرك، كهل يقاسم رفيقه كوب الشاي، وينفثان وجع السنين، بإبتسامة هزيلة، تتبدد في الهواء.

نقترب من نقطة تفتيش، الجندي المحتل الذي رأيته يرابط عند
الحدود، ذاته هنا، يرفع كفه، ويأمرنا بالوقوف، نبرز له أوراقنا، وأذن المرور، ثم يفسح لنا الطريق..
لم نقل شيئا إزاء هذا الوضع، طُلب منا الصمت في حضرة الحاجز الإسرائيلي، حتى ضحكاتنا التي كنا نطلقها ونحن في الحافلة، وئدت في مهدها، والسكون خيم على أرواحنا، وقلوبنا وجلة مما سيأتي.. كانت نظرة الجندي المحتل تحمل تحديا لنا، نحن المهزومين، الضعفاء المغلوب على أمرهم، الذين لا حول لهم ولا قوة.. يمشون على الأرض هونا.. وإذا أوقفهم المحتلون قالوا سلاما.

يقول أبٌ لابنه: لا تخف.

لا تخف من أزيز الرصاص!

التصق بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو

على جبل في الشمال ، ونرجع حينَ

يعود الجنود إلى أهلهم في البعيدِ.

وفيما العساكر في مواقعهم، يرصدون الحنين بين تخوم المدن، وبين حقولها، مضينا نحن، كان الطريق يتعرج بين الجبال كثيرا.. يصعد تارة، ويهبط أخرى، في الأسفل تبدو التجمعات الفلسطينية الفقيرة من كل شيء في الحياة.. وفي الأعالي تسكن المستعمرات، وشتان بين أصحاب الأرض والمحتلين، وكانت المعدات الإسرائيلية تنحت الجبال، وتسرق الصخور، وتذر الغبار في وجوه العائدين، والمرابطين في ديارهم، القابضين على جمر الوطن.. يبحثون عن الماء المسروق من آبارهم، ويفتشون عن بقايا زيتونة.. فلا يجدون إلا شظايا الرصاص، ورائحة البارود.

قال أبو يزن، وهو يشير إلى المستعمرات، هؤلاء يسرقون
الماء من الأسفل، حيث يسكن الفلسطينيين، ثم يبيعونه لهم بقدر معلوم.
أنظر إلى مستعمرة بسغوت على جبل الطويل، الطريق إليها مختلف عن باقي الطرق، والحراسة تطوقها من كل مكان، أشجار الزيتون والفواكه المحيطة تم اقتلاعها لدواعي أمنية، هنا يمنع الفلسطينيون من مجرد الإقتراب من المكان.. عليهم أن ينظروا فقط من البعيد إلى المستعمرات، وهي تتربع المواقع الإستراتيجية، وتأخذ مكانها في أجمل البقاع في وطنهم.

لا أعرف المستعمرين هناك، من أي البلاد جاءوا.. وماذا يفعلون في هذه الأرض، ولا أعرف مشاعرهم، وكيف ينظرون إلينا، هل هم خائفون، وجلون، هل يشعرون بالأمان، هل يتمنون لو عادوا لشتاتهم، ورحلوا عن هذه الديار، التي بالتأكيد يعرفون إنها ليست لهم، لا أعرف.. لا أعرف إن كانوا سعداء على إحتلالهم أرضنا، أم لا.

ولنا بلادٌ لا حُدُودَ لها, كفكرتنا عن

المجهول, ضيّقَةٌ وواسِعَةٌ. بلادٌ...

حين نمشي في خريطتها تضيقُ بنا

وتأخذنا إلى نَفَقٍ رماديّ, فنصرخ

في متاهتها: وما زلنا نحبُّك.

لم تغب المستعمرات عن عيوننا، كلما وجهنا شطرنا صوب جهة، وجدناها ماثلة أمامنا، ونقاط التفتيش الإسرائيلية، وما تبقى من أثارها، في كل مكان نعبر إليه، في أبوديس، ونحن في طريقنا إلى جامعة القدس، توقف السائق في جهة بعيدة، قال إنه لن يستطيع الإقتراب من المكان، فجنود الاحتلال يضربون طوقا أمنيا على الجامعة وما حولها في هذه اللحظة، والطريق مغلقة ..

تقف الحافلة بنا بعيدا.. نترجل منها، ونبدأ في المسير، على
وقع صفقات الشباب الفلسطيني، الخارج للتو من حرب مميتة، بعدما أقتحم الجنود قريتهم فجرا، وقتلوا أحد المطلوبين لديهم، ورموا السكان بقنابل الغاز السام والرصاص المعدني.. كانت آثار المواجهات تصبغ المكان.. الطرق.. المحلات التجارية.. البيوت المطلة على الشارع.. المركبات المحترقة..
أنظر لآلسنة الدخان المتصاعدة من حاويات القمامة التي سدت الطريق، لشظايا الرصاص المتناثر الذي أطلق على الشباب العزل، لرائحة البارود التي تلف المكان، للحرب التي دارت راحها هنا، للأشجار التي خدشت، وما سقطت، كنت أسير في الطريق كاسرا وجه الحصار، لا.. لم أكن أسير في المقدمة، كان قلبي وجلا، وكنت خائفا أترقب، أن أجد نفسي في قلب المعركة.. هل كانت معركة بالفعل؟؟.

يتقدم الرفاق، يقول هشام واصف، سنمشي دون أن نأبه لهم، ويقول أسد شجاع: إنه خبزنا اليومي، ويقول محمد سطيح: لا عليكم تقدموا..

يبدأ الأصدقاء في التقدم، مصطفى.. حمود.. عوض.. حاتم.. عاصم.. حمدان، وأنا والبقية..

يقيسُ الجنودُ المسافةَ بين الوجود وبين العَدَمْ

بمنظار دبّابةٍ...

نقيسُ المسافَةَ ما بين أَجسادنا والقذائفِ بالحاسّة السادسةْ.

تسري الشجاعة في دمي، أتقدم أكثر.. وأقف قريبا من العربة
العسكرية، وجنود الاحتلال ينظرون نحونا بشرر، لا أبه بهم، أطلب من مصطفى إلتقاط صورة لي، على أن تكون عربة الجند المدرعة في المشهد، ولا بأس بالجندي وهو يمسك بندقيته، لتظهر بطولتي أكثر.. ينظرنا الفتية الفلسطينيون من بعيد، يصفقون لنا، ويطلقون الزغاريد للشباب العُماني الذي كسر الحصار على الجامعة، وفك الطريق الواصل إليها، ومصطفى يقترب بعدسته، ثم يأخذ حمود الطوقي المشهد، وكذلك يفعل عاصم الشيدي.. يهرول الأخرون لأخذ دورهم، تتسع الصورة أكثر.. الكاميرا التلفزيونية تدور في تلك اللحظة، فهذه أجمل توثيق لزيارة الوفد العُماني، يمكن أن تبث في نشرة أخبار العاشرة، يبدو عوض باقوير صلبا، وهو يتقدم إلى الأمام، ومعه الوضاح وحمدان وعبدالعزيز.. يا إلهي الجميع يقف محاذاة الآلة العسكرية الإسرائيلية، ولا يهتم للغضب الذي يتصاعد من عيون الجنود وهم يرمقوننا، يتحمس مصطفى فيقترب من العساكر ويسألهم: لما أنتم هنا.. وفجأة.
طلقة تهز المكان..

تسقط عزيزة أرضا..

ويرتعد عاصم..

يتوقف مصطفى عن الحديث مع الجنود..

يلتفت عوض، ليتابع مستقر الرصاصة..

وأتسمر أنا في مكاني.. وقد ارتعدت فرائصي، وتسارعت دقات قلبي..

ثم طلقة أخرى.. وأقفز من مكاني مهرولا، بحثا عن إحتماء..

في وجوه الجنود سخرية وإستهزاء.. وفي وجوهنا خوف وتعب.. وما بيننا بندقية تهابُ من حجر، وكنا قد دخلنا في تلك اللحظة إلى المشهد الأخباري، دون أن نعرف إنه ليس مشهدا سينمائيا، حتى نمارس فيه أدوار البطولة..

نلمح مجموعة أخرى من جنود الاحتلال على قارعة الطريق وقد استراحوا من إداء المهمة الموكلة لهم، بعضهم يغط في النوم، وآخر يصلح فوهة بندقيته، فيما يشرب الباقي قهوتهم..

أَيُّها الواقفون على العَتَبات ادخُلُوا،

واشربوا معنا القهوةَ العربيَّةَ

فقد تشعرون بأنكمُ بَشَرٌ مثلنا.

أَيها الواقفون على عتبات البيوت !

اُخرجوا من صباحاتنا،

نطمئنَّ إلى أَننا

بَشَرٌ مثلكُمْ !.

أنظر لسحنات الجنود، وملامحهم، ليسوا من طين هذه الأرض، هؤلاء سمر، وأؤلئك الذين في المستوطنات، والذين رأيتهم على الحدود، بيض، وهؤلاء عجاف، وكذلك أؤلئك، وهذه الأرض لا تنبت الشوك، أقرأ في عيونهم الخوف، وهم مدجدجون بأعتى الأسلحة، يود الجندي لو كان في بيته، يستريح من البندقيّة، ويغفو قليلاً على مقعد الخيزران، ويحنو على فرو قطته.

هدوءاً، هدوءاً، فإن الجنود يريدون

في هذه الساعة الاستماع إلى الأغنيات

التي استمع الشهداء إليها، وظلّت

كرائحة البنّ في دمهم... طازجة.

أخبرتنا عزيزة أنها سقطت، من الخوف، وقال مصطفى القاسم أنه لم يرتعد، وكان يتمنى الشهادة، وقال آخر إنه كان سيفتح صدره، ليحضن رصاصة العدو، وشاب فلسطيني رافقنا أشار إلى أن الرصاصة ربما كانت صوتية.. من يعلم!!.

***

في جامعة القدس، تمثل لنا وجه آخر من أوجه العنصرية البغيضة التي يمارسها الاحتلال بحق ابناء هذه الأرض، فعلى الرغم أن الجامعة قد حصلت على المركز السابع على مستوى الوطن العربي من الناحية البحثية والعلمية، وإعتبارها من أهم الجامعات في فلسطين والعالم العربي، إلا أن سلطات الاحتلال الغاشمة لا تعترف بهذه الجامعة، رغم إعتراف دول العالم بها، والسبب يعود إلى أسم "القدس" الذي تحاول إسرائيل مصادرته من كل ما يمت لفلسطين بصلة، وقد ضغطت دون جدوى لتغيير أسم الجامعة، وما فتئت تهدد بمصادرة الأرض المقامة عليها، بحجة بناء طريق دائري.

كان عميد الجامعة وإدارتها يسهبون في الحديث عن جامعة
القدس، وانجازاتها، وجهودها من أجل الحفاظ على كيانها، وإبقاء إسم القدس شعلة مضيئة على منارتها.. في كثير من الأحيان يتم محاصرة الجامعة واقتحمها من قبل جنود الاحتلال بحجج واهية، ليس أقلها البحث عن مطلوبين..
هناك سقط شهيد من طلبة هذه الجامعة، وهناك سقط شهيد آخر، وهذا الممر يشهد على مواجهة دامية أدت إلى إستشهاد وجرح عدد من طلبة الجامعة، دون أن يفتت ذلك من عزيمة الطلاب، ويثبط هممهم في إرتياد الجامعة، وتحدي الحصار..

عندما تختفي الطائراتُ تطيرُ الحماماتُ،

بيضاءَ بيضاءَ، تغسِلُ خَدَّ السماء

بأجنحةٍ حُرَّةٍ، تستعيدُ البهاءَ وملكيَّةَ

الجوِّ واللَهْو. أَعلى وأَعلى تطيرُ

الحماماتُ، بيضاءَ بيضاءَ. ليت السماءَ

حقيقيّةٌ قال لي رَجَلٌ عابرٌ بين قنبلتين.

في جامعة بيرزت التي تعتبر من أفضل الجامعات الفلسطينية من حيث المستوى الأكاديمي الذي تحتله، وجدنا ذات المشهد المأساوي لمضايقات جنود الاحتلال، وممارساتهم التعسفية بحق الطلبة، من منع وإعتقال وقتل.. ولا غرابة فهذه الجامعة كما أخبرنا عميدها، شاركت بفاعلية في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فالبطل يحيى عياش كان من خريجيها، وهو من أوائل صانعي القنابل التي اشاعت الذعر في الشارع الإسرائيلي في مطلع التسعينات من القرن الماضي.

ولعب خريجو جامعة بيرزيت دورا مهما في رسم الأحداث على الساحة الفلسطينية، فالدكتور فتحي الشقاقي أحد خريجيها وهو مؤسس حركة الجهاد الإسلامي ذات الامتداد الواسع والراسخ في فلسطين، وأيضا مروان البرغوثي، الذي رأينا رسمه مع القائد الرمز ياسر عرفات على واجهة الجدار العنصري، ونحن في طريقنا إلى القدس، أحد خريجيها.

حين مشينا في حرم جامعة بيرزيت، وتنقلنا بين أقسامها، رأيت طلبة غير الذين تصورتهم، يمتلئون بالحياة، ومفعمون بالأمل، وينبضون بالصمود، رأيتني وكأني في حرم جامعة أخرى لا تعش قساوة الاحتلال ومعاناته.. ولم تدفع ثمن إستمرارها من دماء ابنائها، أو كأن الأرض تحت أقدامهم لم تئن من اقتحام الصهاينة، ولم تمت عصافير بيرزيت بطلقة طائشة..

كانت همم الطلبة تزهر فرحا، رأيت إنتاجهم في مركز تطوير الإعلام في الجامعة فأبهروني، كان العلم هو السلاح الذي يحارب به الشباب الفلسطيني القمع والاحتلال، لم تثبط عزائمهم، ولا استسلموا لواقعهم المرير، وكانت الآلة العسكرية، بكل اساطينها وجبروتها ضعيفة، أمام هذه العزيمة..

أيَّها الساهرون ! أَلم تتعبوا

من مُرَاقبةِ الضوءِ في ملحنا

ومن وَهَج الوَرْدِ في جُرْحنا

أَلم تتعبوا أَيُّها الساهرون ؟

واقفون هنا. قاعدون هنا. دائمون هنا. خالدون هنا.

كانت صورة فلسطين العزة والكبرياء والشموخ، هي من يتماثل أمامنا، في كل مكان، أراها في محايا الأطفال الذاهبين إلى المدارس، وفي عيون الأمهات اللواتي يقفن على عتبات الفجر ينتظرن العائدين.. وفي حبات العرق المتساقطة من الرجال، وهم يمسحون الحزن عن وجه الوطن، ويرسمون إبتسامة للغد الأجمل، في كل مكان..

اقبض على عنق السنابلِ

مثلما عانقت خنجرْ!

الأرض ، والفلاح ، والإصرار،

قال لي كيف تقهر..

هذي الأقاليم الثلاثة،

كيف تقهر؟.


للحكاية بقية

أقـرأ : 


على هذه الأرض ما يستحق الحياة ( 1 ) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق