السبت، 15 سبتمبر 2007

طفل الحارة الذي قرر أن يصوم




( 1 )
لرمضان حكايات تنسل إلى ذاكرته، كلما عاد إلى حارته، وقلب صفحات ايامه، هناك ثمة طفل صغير، يجري بين بيوت الحارة، يرسم على الدروب ضحكاته وبسماته، ويلون سماواتها، بالوان البهجة والمرح الطفولي.. كان يرسم ملامح الحكاية، دون أن يدري أنه سيشتاق لليالي الرمضانية هذه، وسيحن إليها كما يحن الآن إلى حارته العتيقة..
كان حين يعرف أن رمضان على الأبواب.. يحسب سنوات عمره، وحين يكمل اصابع يده الخمسة، يدرك أن عليه الاستعداد للصوم، والتوقف عن الأكل والشرب.. كما عليه أن يتوقف عن اللعب في نهار رمضان، حتى لا يتعب، ويشعر بالجوع والعطش..
فكر في الصوم..
وفكر في اللعب..
ثم قرر أن يصوم يوما .. ويلعب يوما آخر..

( 2 )
يتسابق كحال رفاقه للمسجد، يزاحم الصفوف، دون أن يتذكر متى كانت آخر مرة صعد فيها سلالم هذا المسجد..
ينضم إلى جموع المصلين، وفور ان يسلم الامام فارغا من أداء فريضة المغرب، يخرج سريعا، ويركض نحو سطح المنزل، ثم يقفز منه إلى اسطح المنازل المجاورة.. الأكثر علو من منزلهم، وهناك يبحث في السماء عن وميض يختبئ بين الشفق الاحمر.
كانت اسطح المنازل تكتظ بالصغار الذين صوبوا انظارهم نحو السماء، وراحوا يبحثون عن الكنز المدفون فيها.. يحاول احدهم ان يضلل البقية، بالاشارة إلى ان الهلال سيبزغ هذه الليلة من الشرق، اسوة بالشمس التي تشرق من بين الجبال البعيدة، وتلتف الانظار نحو الشرق، فيما تحوم الاخرى حول الجهات الاربع، ترصدا للهلال.
وحين تلتقي ابصارهم به، ويتبين لهم كخيط رفيع، ينسلون من المكان، تاركين الحيرة لبقية الصغار، يترصدون السماء، وهم يتنازعون حول جهة الهلال.
ويجري الصغير كحال رفاقه، ناقلا البشارة إلى الكبار، الذين يتلقفون بشارته هذه ببشارة اخرى، يجودون عليه بانواع الحلوى والمكسرات، وشئ من البيسات، تملئ جيوبه، وترسم الفرحة على وجهه..

( 3 )
سيعود للمسجد لاداء التراويح..
هكذا عزم، وهو ينظر إلى تهافت رفاقه الصغار لاداء الصلاة جماعة، وحث الخطى، وهم يحاذون ابائهم واخوانهم، في الطريق إلى المسجد.
لم يشأ ان يكون حبيس الانتظار مع الاصغر منه، يترقب عودة رفاقه المصلين، أو يقطع صلته بالمسجد، هذه التي بدأت قبل بزوغ الهلال.. فاتجه ناضحا الماء على وجهه وكفيه، وغسل قدماه، ثم حاذى والده في الطريق إلى المسجد، متفاخرا انه سيصلى كما الكبار.. دون ان يعرف كيف تؤتى التراويح، وكم عدد ركعاتها.
في الصف الأمامي يجد ثمة متسع له في آخر الصف، فيهرع إليه، ويحاول جذب انظار والده، لينال دعائه وبركاته.
ويروح يقلد المصلين الكبار في الركوع والسجود، يصلي معهم الفرض، ثم يواصل الركوع والسجود في السنة الراتبة، وهو يرقب حركات والده، وحين يتوقف والده عن السجود.. يتوقف هو.
وتبدأ التراويح.. يقف.. يركع.. يسجد.. يقف.. يركع.. يسجد.. يجلس.. يقف.. يركع.. يتعب، فيقرر الخروج من الصف، قبل ان يشاهده والده، ويستغل لحظة سجود المصلين، ثم يولي شطره خارج المسجد، ممتعضا، من الامام الذي لم يتعب من سجوده وركوعه..
يتفاجأ انه ليس وحيدا من ترك الجماعة، فقد سلك البقية مسلكه، وخرجوا جميعا من الصفوف، وراحوا يمارسون العابهم المفضلة في دروب الحارة، وحينما تعبوا من اللعب، عادوا لصفوف المصلين، وانضموا إليهم، في آخر الركعات، وسجدوا.. ثم جلسوا، وأخيرا سلم المصلون.. وباركوا عزيمة الصغار، الذين اصطفوا معهم، وأدوا التراويح بهمة ونشاط..

( 4 )
عزم على الصوم هذا الشهر..
كان مبعث عزمه ذلك، الغيرة التي دبت في صدره الصغير، وهو يرى من حوله يستعدون للصوم، ويتباهون أمامه.. بذلك..
حتى ابن عمه الذي يكبره باشهر معدودة، أعلن هو الآخر انه سيصوم..
أخبر والدته بنيته، واثنت على همته، وكان ليلتها حديث الجميع، ومباركتهم هذا الاقدام، و(التطوع) المبكر، خاصة بعدما اشاد والده به، لإدائه التراويح كاملة!..
استيقظ مع الكبار، وقت السحور، وتناول معهم وجبة دسمة، عاد بعدها للنوم..
في الصباح أحس بشئ من العطش، ومع ذلك لم يثن همته، وحافظ على عزيمته، حتى اشتد به العطش، وبلغ اوجه، وفطن إلى امر يذهب ظمئه.
حين توضاء لصلاة الظهر، قذف إلى جوفه الماء ما استطاع، وهو ينوي ابتداء الصوم من جديد في اليوم التالي..
( 5 )
لم تكن هناك مبردات، ولا مكيفات هواء باردة.. كانوا يرشون بعض المياه على فراشهم، ويتوسدون السماء، يهب عليهم الهواء القائض، فتصطدم بقطرات الماء العالقة على الفراش، وتقلل بعضا من حرارة الهواء، يشعرون بعدها ببعض برودة.. تتلقفها اجسادهم، وتنتعش اوصالهم، وهكذا يحلو نوم العراء.
كان النوم في الأسطح متعة بالنسبة له، خاصة اذا كانت السماء مليئة بالنجوم.. يبدأ في عدها.. نجمة.. نجمتان.. ثلاث.. ارب.. وقبل ان يصل إلى العشرة، تكون عيناه قد اسدلت الستار.. وراح في سبات عميق، لا يستيقظ منه، إلا على صوت والدته، تدعوه للسحور، وبدء جولة جديدة من الصيام.

( 6 )
يتباهى امام الصغار انه اصبح صائما هذا اليوم، وكذلك يتباهون مثله..
أخوه الأصغر، يغيضه بقضم قطعة من الشكولاته امام انظاره، يتلذذ بها الهوينا، فيما هو (الصائم) ينظر إليه، يسجل كل حركاته وسكناته، وحين يأتي أخاه على أخر قطعة، يرمي الورقة، ثم... لا تجد للورقة باقية، فقد اختطفتها يداه، وراح يلحس ما علق فيها.. بنهم لا حدود له..
ومن جديد، يعلن ان الغد.. سيكون يومه الأول في الصيام.. وان عزمه ذلك لن يثنيه أي شئ..

( 7 )
هذا المساء، وقبيل الغروب، سيذهب مع اخوه الأكبر إلى السوق، لابتياع قطعة من الثلج، يضعونها في اناء الماء، كيما يبرد، ويستمتعون بشربة ماء باردة، بعد صيام حافل بالجوع والعطش..
يضع البائع قطعة الثلج في الاناء، فتتشظى منها قطعة صغيرة، تثير شهيته المتعطشة للماء، والبرودة في آن واحد.
يأخذها على حين غفلة من اخيه، ويضعها في فمه، متلذذا بالبرودة، وبقطرات الماء، التي تلج جوفه، فيذهب ما به من التعب والعطش..
ومن جديد.. يعلن ان الغد سيكون يومه الاول للصيام.. وان ذلك امر لا مفر منه، بأي حال من الاحوال..

( 8 )
رائحة الطعام المنبعثة من المطبخ تثير شهيته، يقفز من نومه على صوت امه، وهي تطلب منه اخذ بعض الطعام للجيران، وتوصيه على ايصاله بالسرعة الممكنة..
في الطريق يلتقي برفقاه، الذين أوكلت لهم ذات المهمة، يتباهى كل منهم بنوعية الطعام الذي يحمله.. كل له مذاقه ورائحته الخاصة.. انظارهم لا تملك خلاص من الصحون الفاقع لونها.. والرائحة التي تداعب شهيتهم، يتفقون على مكان ما.. ويتذوقون الصحن الاول، ثم الثاني.. ثم....
 يعودون إلى منازلهم، بصحون فارغة.. وهم يؤكدون ايصال الطعام إلى جيرانهم..
ومن جديد متجدد دائم.. يعلن ان الغد سيكون أول أيام صيامه.. وسيحقق ذلك باقصى ما يستطيع من سبيل..

( 9 )
من يسرق الرمضان.. ستنبت له حبة حمراء في وجهه.. تلازمه حتى صبيحة العيد.
هكذا قالت له أمه، وهي تضبطه، يمضغ قطعة بسكويت يابسة.. بالية.. وجدها مرمية في ساحة البيت، واثارت شهيته، ارتبك، وهو يؤكد انها لم تكن سرقة، بقدر ما كانت استراحة، يلتقط فيها الأنفاس، ليواصل الصيام إلى آخر اليوم..
كان أمر الحبة الحمراء، التي ستنبت في وجهه، جزاء افعاله، مثار خوفه وقلقه.. امسك عن الطعام حتى نام على بطنه الخاوي.. وحين استيقظ، اخذته أمه في حضنها، وربتت عليه، وهي تقول له: المرة الاولى لك، ولكن لا تفعلها ثانية..

( 10 )
ساجو.. كاسترد.. عيش مطحون.. اطعمة داب عليها في ليالي رمضان، كان يرافق والده في رمساته مع الجيران، وينظر إلى اطايب الطعام التي تنساق بغزارة..
يتلذذ بطعم الساجو القريب من طعم الحلوى التي يعشقها، ولا يرده عن ذلك، غير نظرات والده الزاجرة، ان يحترم مجلس الكبار، اذا هو اراد الجلوس معهم..
يمسك عن الأكل، وحين يغادر الكبار رمستهم، يأتي ومن معه من الصغار، على بقايا الطعام، ويلتهمونها دون هوادة..
ويرافق والدته إلى مجالس النساء الليلية.. وهناك يجد ان الصغار سبقوه، ولكن ليس إلى صحون الساجو.. يرقبها بنهم، ثم.. لا يبقى لها من باقية..

( 11 )
ساجو.. كاسترد.. عيش مطحون.. هي كل ما يعرفه من أطعمة ليالي الشهر الفضيل، كانت شهيته تتفتح أكثر لطعم الساجو الساخن، ذو اللون البلوري، كان يرقب أمه وهي تعد هذه الوجبات..
يقدم نفسه لمساعدته، ويصر على غسل اواني الطبخ، ويبدأ بغسل قدر الساجو، وقبل ان يضع عليه الماء والصابون، يمرر اصابعه في حوافه، ثم... ويعيد الكرة مرة أخرى.. حتى يصبح الأناء نظيفا، بدون ماء ولا صابون..

( 12 )
ليلة النصف من رمضان، أو كما يقال لها ليلة العقبة، تخبره امه، بأنهم سيصعدون العقبة، وهناك سيأكلون الحلوى واطايب الطعام، اما اخوته الغير صائمين، فسيكب عليهم المرجل، حتى عودتهم..
ودون ان يعلم كينونة العقبة، ولا ماهيتها.. ينظر إلى المرجل الوحيد الموجود في منزلهم، ويفكر، كيف سيتسع هذا الوعاء لأخوته؟، وكيف سيتمكنون من الحركة داخله؟..
يقرر اكتشاف الأمر، فيعلن إنه لن يصوم الغد، ويسهر ليلته تلك يترقب، وضع المرجل عليه واخوته، وحين يطلع الصباح، يجد بقايا الحلوى، ولا يجد المرجل في مكانه!.
( 13 )
سيصوم غدا.. وغدا لن يصوم.. وما بين الصيام واللاصيام.. تمضي أيام الشهر الفضيل، والحكاية ذاتها تتجدد لدى صغار الحارة.. دون ان يكاشف اي منهم الآخر، حفاظا على هيبته ومكانته بإعتباره اصبح من الصائمين..
في اليوم الآخير من الشهر الذي لم يصم أي من ايامه، يعلن انه سيبدأ التطوع العام المقبل.. وسيكون صيامه ذاك خالصا، دون ان تثير شهيته قطعة بسكويت مرمية، أو بقايا مغلفات الشكولاته.. ولا حتى رائحة الساجو..
حين يؤذن المغرب.. يجري نحو سطح المنزل، ويمارس والصغار من جديد لعبة البحث عن هلال متواري في سماء بعيدة..

نزوى ـ في 15  سبتمبر 2007م