الخميس، 26 ديسمبر 2013

على هذه الأرض ما يستحق الحياة ( 5 )




ككل الصباحات في رام الله..
نلتقي على مائدة الإفطار.. نسأل عن الأخبار، وننبش في الذكريات الجميلة التي تتشكل يوما بعد آخر في هذه البلاد، نقلب الصحف الصادرة في رام الله، نتتبع أخبارنا، ونبحث عن صورنا الساكنة في عدسات الزملاء، ونتبادل ضحكة على موقف مررنا به، أو حكاية ولدت هنا أو هناك.
في الحافلة، نتأكد من عددنا..
يهمنا ألا يتأخر أحد عن البرنامج، نسأل مرافقينا، عن وجهتنا القادمة، ثم تتوالى الأسئلة عما سيحدث هناك، ومن سنقابل.. ومتى.. وكيف...
تمضي الحافلة، ووجه رام الله يصحبنا حتى الحاجز الذي ننعطف منه إلى وجهتنا القادمة، وذات الحكاية مع الجندي الإسرائيلي الذي بدا وكأنه تآلف معنا، حد أنه لم يأبه في تفتيش قسمات وجوهنا، والنظر إلينا فردا فردا، يكتفي برؤية ورقة صغيرة يرفعها سائق الحافلة، ثم يشير لنا بالتحرك.
كانت اللافتات التي تخبر عن أسماء المدن والمستعمرات
واتجاهها تثير إنتباهنا، فعلى الطريق رقم (60) أحد طرق الضفة الغربية، والذي  يربط ما بين مدينة السبع جنوبا حتى مدينة الناصرة، تسكن العديد من المستعمرات، التي تترابط بعضها ببعض على هذا الطريق، وتطوق المدن والقرى الفلسطينية، وتحبسها داخل زنزانتها الكبرى.
ولكون الطريق رقم (60) يمر بمعظم مناطق الضفة الغربية كالخليل وبيت لحم والقدس وجنين، فقد كان علينا المرور عليه بشكل دائم، كلما غادرنا رام الله إلى مدينة أخرى..
كانت الأسماء العبرية للمدن المحتلة لافتة لنا، نطلب من السائق التمهل وهو يحاذي لافتات المدن، فيطلق حمدان البادي عدسته نحوها، وكذلك يفعل مصطفى أحمد، ومن الاتجاه الآخر يفعل مثلهما عاصم الشيدي وحمود الطوقي، وأسمع عزيزة راشد تستعين بعبدالعزيز ليصور لها المشهد، وحده حاتم الطائي من يسترخي في آخر الحافلة وهو يتأمل المشهد الماثل أمامه، وكأنه يتأهب لتصوير فيلم سينمائي قصير، تحوم فكرته على مد بصره..
في مقدمة الحافلة يدور نقاش خافت بين عوض باقوير وسالم الجهوري، ويشترك فيه مرافقونا هشام واصف وأسد شجاع ومحمد سطيح، وغير ذلك تبدو الحافلة هادئة في مسارها، قبل أن يحتدم الجدال بين حمود الطوقي ومصطفى أحمد، يختمها الأخير بكلمة استنكارية، تثير المرح في الحافلة..
نقرأ أورشليم.. وبين قوسين القدس، ومعها مستعمرة بيت أيل، وعيلي ومفرق تبواح..
أورشليم! التي عصرت كل أسمائها
في دمي...
خدعتني اللغات التي خدعتني
لن أُسمّيكِ
إني أذوب, وإنَّ المسافات أقربْ
وإمامُ المغنّين صكَّ سلاحاً ليقتلني
في زمان الحنين المعلّب
والمزامير صارت حجارهَْ
رجموني بها
وأعادوا اغتيالي
قرب بيّارة البرتقالِ...
***
كان الطريق يأخذنا إلى مدينة الخليل.. مهد أبو الأنبياء خليل الرحمن، إبراهيم عليه السلام..
كان الشوق يسبقنا إلى المدينة، حيث تهفو النفس للصلاة في المسجد الإبراهيمي.. والتضرع إلى الله في بقعة فلسطينية مقدسة، والدعاء لها بالخلاص من براثن الإحتلال..
طال المسير قليلا.. بسبب الإلتفاف حول الطرق الممنوعة كي نسلك الطرق المسموح لنا العبور فيها..
انضمت إلينا رضا خضر ممثلة الهيئة العمانية للأعمال الخيرية في الضفة الغربية، التي قادتنا في البدء للتعرف على المشاريع التي تنفذها الهيئة في ربوع الوطن الفلسطيني، وماهيتها، حدثتنا عن المدارس والمجمعات الصحية، وعن المساهمة العمانية في مساعدة الجامعات الفلسطينية على التوسع، واستيعاب الطلب المتنامي عليها، والإعانات التي تقدم للجمعيات والأفراد.. وعن أشياء كثيرة، وقالت إن ذلك يسهم في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني، والتخفيف من معاناة الانتقال وعبور الحواجز، للوصول إلى أقرب مدرسة أو مستوصف.
أخبرتنا رضا عن أرقام المساعدات العمانية.. وعن نصيب الخليل منها، وكنا بعدها نسلك الطريق الواصل إلى بلدة صوريف إلى الشمال الغربي من مدينة الخليل، تتقدمنا سيارتان ترفعان العلم العُماني والفلسطيني إحتفاءً بوصولنا، فيما انضم إلى حافلتنا مسئول من بلدية الخليل، الذي راح يخبرنا عن إنتهاكات الاحتلال وعن القتل والتشريد ومصادرة الأراضي.. وعن حرق أشجار الزيتون.. وقطع الطرق، وعن مضايقات عديدة يتعرض لها أهالي المدينة..
من على سطح عيادة مسقط في صوريف وفوق رقعة جبلية ترتفع 600م عن سطح البحر، شاهدت إمتداد البلدة والقرى المحاذية لها، وتتبعت جهة الحرم الإبراهيمي، قريبا من المكان، وفي منطقة جبلية أكثر ارتفاعا، تبدت لنا بقايا مستعمرة أقامها الاحتلال، بعد حيازة عدد ضئيل من المستعمرين للمكان، قبل أن يضطروا لمغادرته، بعد أن انقلبت عليهم المضايقات التي كانوا يمارسونها بحق الفلسطينيين..
كنا نحتضن النسيم البارد الذي يهب علينا، ونحن في بقعة مرتفعة، تطل على واحات الزيتون الممتدة، وعلى أشجار العنب والتين واللوز، وعلى منازل الفلسطينيين التي بدأت تقوم من تحت الانقاض، والتعمير يأخذ مجراه من رصف الطرق، ومد خطوط الماء والكهرباء، وتنفيذ المشاريع التعليمية والصحية..
أطللت بفرح على المكان.. سألت مجددا عن إتجاه الحرم الإبراهيمي، أنظر ناحيته.. أتأمل البقعة الساكن فيها، تحلق الروح كيمامة نحوه..
تودّ العين.. لو طارت إليك
كما يطير النوم من سجني
يود القلب لو يحبو إليك
على حصى الحزن.
***
لا يمكن أن تكتب عن الخليل، دون أن تقذف بصرك في كل
الجهات، دون أن تتأمل الخرب التي أقامها الاستيطان، ودون أن تسمع حكاية نبع الماء الذي سرقه الأعداء بعد احتلالهم المدينة، وحرموا منه السكان، لا يمكن أن تقول شيئا في حضرة مدينة أبو الأنبياء، وأنت محروم من الدخول إلى عتباتها المقدسة، والصلاة في المسجد الإبراهيمي، ودون أن يكون لك الحق في التجوال داخل المدينة القديمة، أو أن تشرب عصير الرمان في سوق الحرم.. ودون أن تكون ذاتك الحرة تحلق حيثما تشاء وكيفما تشاء.
تكتب عن الخليل وتستقرئ التاريخ المكتوب على دروبها، وتستنطق أشجار الزيتون، والعابرين في طرقاتها، المكلومين بالجراح، الساهرين على الأنين، المثقلين بوجع الأيام، الباحثين عن طائر يحلق في سمائهم، وعن سلام يمشي على أرضهم، عن الوجع المكبوت في الصدور، عن الإبتسامة الشاحبة، والأيام الثقال التي تمر عليهم، وعن العلم الفلسطيني الذي أنُزِل من ديارهم، ومنع من التداول، وعن النجمة التي تتربع بين لونين..
وطني ! أُفتِّش عنك فيك فلا أرى
إلاّ شقوق يديك فوق جباهِ
وطني أتفتحُ في الخرائب كوة ؟
فالملح ذاب على يدي وشفاهي
مطر على الإسفلتِ, يجرفني إلى
ميناءِ موتانا ... وجرحُك ناهِ .
***
لا أعرف ما دلالة الأسماء التي تقودنا إلى المدن الجميلة في فلسطين، فطريق وادي النار هو من أخذنا إلى بيت لحم، واليوم يأخذنا طريق وادي جهنم إلى مدينة الخليل، والطريقان لا يختلفان عن بعضهما البعض، مع إختلاف المشاهد الماثلة أمامنا.
تعرجات وانكسارات عدة، تميل بنا الحافلة يسارا ويمينا، ثم تصعد حينا وتهبط حينا آخر، وأرواحنا تحلق على وقع حديث عن المنطقة الأكثر إلتهابا، والمستعمرات تحتم علينا الإلتفاف والدوران، حتى إذا ما بلغنا مشارف الخليل، اصطدمت أبصارنا بمستعمرة "كريات أربع"، أول وأضخم مستعمرة يهودية، وهي تطوق المدينة وتحاصرها جغرافيا وسكانيا.

يرجع تاريخ كريات أربع إلى العام الذى تلا نكسة 1967 مباشرة، حيث طلبت مجموعة من الإسرائيليين وعلى رأسهم المتطرف موشيه لفينجر من الجيش الإسرائيلى أن يأذن لهم بقضاء عطلة عيد الفصح فى فندق بارك بالخليل، وبقيت المجموعة في الفندق بعد الأعياد وحصلت على دعم عدد من السياسيين الإسرائيليين.

وبعد عدة أشهر تم التوصل إلى حل وسط بين مجموعة لفينجر والسلطات الإسرائيلية، منحت بموجبها المجموعة قطعة أرض شرق مدينة الخليل تمت مصادرتها من قبل الاحتلال، وبدأوا بإنشاء المستعمرة، التى تجاوز عدد سكانها الآن سبعة آلاف نسمة.

وقد أدى بناء هذه المستعمرة إلى تدمير عشرات المنازل الفلسطينية وتهجير أهاليها ومصادرة أراضيهم، إضافة إلى اضطرار السكان إلى ترك بيوتهم بسبب الاعتداءات والمضايقات غير المنتهية من المستعمرين المتطرفين.

ندخل الخليل.. متوجسين، خائفين أن نعود من حيث أتينا، هي الحكاية ذاتها تتناسخ في المدن الفلسطينية المحتلة، تعبر الحواجز، ونقاط التفتيش، تنتظر إذن المرور، وكأنك تتوسل العبور إلى أرضك وديارك، ثم تمضي في طريقٍ ملتوٍ، وتتباعد المسافة الواصلة بينك وبين مقصدك، ثم إشارة من عسكري لم يبلغ العقد الثاني برتبة عريف أو أدنى من ذلك، تعيدك من حيث أتيت.

نتبع السيارتين اللتين أحتفتا بوصولنا، نتوقف معهما في نقطة
تالية، نترجل من الحافلة، يخبرنا مسئول البلدية، أننا سنعرج بدءا على لجنة إعمار الخليل، في البلدة القديمة، للتعرف على أهداف واستراتيجية اللجنة، ودورها  في إعادة وتأهيل وإعمار المباني التاريخية.
في غرفة متوسطة ضمن مبنى يحمل إسم لجنة إعمار الخليل، أخذنا موقعنا، شاهدنا فيلما عن المدينة، وعن تاريخها، وعن إحتلالها، وخطة سلطات الاحتلال والجماعات الاستيطانية المتطرفة لتنفيذ خطة ممنهجة لتهويد البلدة القديمة، والسيطرة عليها من خلال إنشاء خمس بؤر استيطانية لتحويل البلدة القديمة إلى حي استيطاني كبير، وتأمين الحماية الكاملة للمستوطنين المتطرفين، والاجراءات التعسفية الممارسة بحق سكان البلدة، كفرض حظر التجول لفترات زمنية طويلة، وإغلاق المداخل المؤدية إليها، وإغلاق المناطق والمحلات التجارية والسيطرة على ممتلكات المواطنين ومصادرة أراضيهم، بالاضافة للاعتداء على السكان وإرهابهم من قبل جيش الاحتلال والمستوطنين لتهجيرهم.

سيمتدُّ هذا الحصار ليقنعنا باختيار عبوديّة لا تضرّ، ولكن بحريَّة كاملة  !!.

***

في الطريق الذي سلكناه إلى الحرم الإبراهيمي، مررنا بدروب البلدة القديمة، كان علينا أن نلتف حول المكان، حيث يمنع على العرب الدخول في المناطق التي احتلتها إسرائيل بالكامل، وأقامت عليها مستعمراتها، يخبرنا مرافقونا، أن المدينة هنا وحدها تحتوي على خمسة مواقع استيطانية يهودية وهي مستعمرة تل الرميده، والدبويا، ومدرسة أسامة بن المنقذ وسوق الخضار والاستراحة السياحية قرب المسجد الإبراهيمي الشريف، بالإضافة إلى التجمع الاستعماري اليهودي على حدود المدينة الشرقية  المتمثل في كريات أربع وخارسينا.

يقول محدثنا: إن الخليل هي المدينة الفلسطينية الوحيدة التي اقيمت في قلبها مستعمرة، إنها تمنح المستعمرين حرية الحركة والتنقل على حسابنا، تضيق بنا دروبنا، وتهدم منازلنا، وتقطع طرقاتنا، من أجل حماية شرذمة من المستعمرين..

يا شارع الأضواء! ما لون السماء

وعلام يرقص هؤلاء؟

من أين أعبر، والصدور على الصدور

والساق فوق الساق. ما جدوى بكائي

أي عاصفة يفتنها البكاء؟.

نصل إلى البوابات الحديدية، التي تنظم دخولنا واحدا تلو الآخر، يتم تفتيشنا، يرمقنا العسكري بريبة، يبحث في سحناتنا عن وجوه مألوفة له، يحاول أن يقرأ في قسماتنا، لماذا نحن هنا، يسأل في قرارة نفسه عن جنسيتنا، وهو الذي لم يبرح ثكنته العسكرية غير إلى داره المغتصبة من أهلها، يهمس بعربية مكسرة لأحد مرافقينا عمن نكون.. ثم يعيد النظر إلينا، نتجمع قريبا من السلم الصاعد إلى المسجد الإبراهيمي، ثمة بوابة أكبر هناك، وحراسة أكثر، يسألنا العسكري الإسرائيلي الآخر، عمن
نكون، ولماذا نحن هنا، ثم يقول إنه ليس لديه أوامر بإدخالنا إلى المسجد، نحاول التفاهم معه، ثم يجري إتصالا هاتفيا، ويرطن بلغته العبرية، وبعدها، يسمح لنا بالصعود إلى المسجد.

كل ذلك حدث، والطريق إلى الحرم الإبراهيمي ليست مقطوعة، والبوابات ليست موصدة، والزيارة مفتوحة، وسلطات الإحتلال رفعت الحظر الذي كان على المسجد قبل بضع ساعات، وكل ذلك حدث مع وفد رسمي، يملك تراخيص مرور، ولا أعتقد أن سلطات الاحتلال، غائبة عنا، ولا تعرف عن أمرنا شيئا.. ولكنها العنجهية الإسرائيلية التي استباحت المقدسات، واغتصبت الأرض، وهدمت المنازل، وسجنت الأبرياء، العنجهية التي يرفع جنود صغار اياديهم في وجوهنا، ويمنعوننا من التحرك إلا بأمر منهم وموافقة من قبلهم.

أتحرر من اغلالي في تلك اللحظة.. بيني وبين المسجد الإبراهيمي الشريف بضع خطوات، أكاد حينها ألمس جدرانه، بل إنني أقف على أرضه وترابه، فما الذي يحول بيني وبينه، غير هذا العسكري، الذي مارس سطوته كما يريد علينا.. ثم أعطانا جواز المرور..

يا دامي العينين والكفين

إن الليل زائل

لا غرفة التوقيف باقية

ولا زرد السلاسل

نيرون مات ولم تمت روما

بعينيها تقاتل

وحبوب سنبلة تجف

ستملأ الوادي سنابل ..!.



الخميس، 19 ديسمبر 2013

على هذه الأرض ما يستحق الحياة ( 4 )


إلى بيت لحم هذه المرة..
إلى مهد المسيح، على خطى المهتدين به، الباحثين عن السلام، أسلك مع الرفاق الطريق الواصل إلى المدينة، عبر المساحة الضيقة من شوارع المدينة المسموح للفلسطينيين العبور فيها، على البعيد كانت المستوطنات تأخذ مكانها العالي، وطرقها السهلة، ومساحاتها الخضراء، ودروبها الفسيحة، والسياج الأمني، وكاميرات المراقبة..
نقف عند حاجز الكونتينر المقام على المدخل الجنوبي لبيت لحم، والذي يفصل بيت لحم والخليل عن وسط الضفة الغربية وشمالها.. ينظر الجندي الإسرائيلي إلى وجوهنا، ويتأمل الورقة الصغيرة التي يقدمها له سائق الحافلة، ثم يعاود النظر نحونا، ويشير لنا بالعبور، يقول السائق إن مزاج الجندي اليوم رائق، لذلك عبرنا بسهولة، ذلك أن الحركة عبر الحاجز، مرهونة بأمزجة جنود الاحتلال، فإذا كانوا رائقي المزاج، وهذا هو النادر، فإن الحركة ستكون أقل صعوبة، وأما إذا كان الجنود قد تعكّر صفوُهم؛ فإنهم سيذيقون المارين ألواناً من الإهانات بلا تردّد. فمرّة يوقفون حركة السير لساعة أو أكثر دون أي سبب، ومرة يقومون بتفتيش النساء دون الرجال، ومرات كثيرة يحتجزون بطاقات الهوية لعدد من المواطنين ويوقفونهم لساعات..
مثل الكونتينر، هناك عشرات الحواجز التي وضعها الإحتلال
لإذلال الفلسطينيين, وتمزيق أوصال الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويتم عبور هذه الحواجز بطريقة مهينة للكرامة الإنسانية، فبالإضافة إلى ضرورة حمل التصاريح، وبطاقات الهوية، يتم فتح بعض هذه الحواجز في ساعات معينة وغلقها في ساعات أخرى، ويتم عبور بعضها سيرا على الأقدام، كما هو الحال في حاجز "قلنديا" جنوب رام الله على الطريق التي تصلها بمدينة القدس المحتلة.. وقس على ذلك من تأخير وعذاب نفسي ومعاناة، كلها مرهونة بمزاج الجندي الإسرائيلي.
حاجز الكونتينر يلخص معاناة المواطنين الفلسطينيين في التنقل بين أرجاء الضفة، ويمنح انطباعاً واقعياً عن جانب من الحال الذي آلت إليه الحياة اليومية للفلسطينيين في ظل سياسات التمزيق والعرقلة التي ينتهجها الاحتلال، ومن بين من يتجرعون ضريبة المعاناة هذه، طلبة الجامعات الفلسطينية، علاوة على العمال الذين يتنقلون بين أرجاء الضفة بحثاً عن العمل.
عرفت تاليا، أن حاجز الكونتينر سيِئ السمعة، يعتبر مصيدة يتصيد بها الجنود كل شخص سبق وأن دخل السجن في أي فترة سابقة، أو له "ملف أمني" كما يسمونه، أو يشتبه بأنه من ناشطي التنظيمات الفلسطينية، فيقوم الجنود بتوقيفه فترة طويلة، ومن ثم يُعتقل أو يُطلب إليه مراجعة مخابرات الاحتلال، أو عليه أن يعود من حيث أتى، ولا يُسمح له بالعبور في أحسن الأحوال.
ويستخدم الحاجز أيضا للمساومة، بغرض تجنيد العملاء للعمل لصالح المخابرات الصهيونية، فمعظم طلاب جامعة القدس الذين يمرّون بالمعبر، يطلب إليهم مراجعة ضباط المخابرات بمستعمرة "معاليه أدوميم"، وهناك يقوم الضباط بمساومتهم للعمل لصالح الاحتلال. 
ولم يقف العقل الصهيوني عند حدٍ في ابتداع أساليب جديدة
لجعل الحواجز أكثر إضرارا بالمواطن الفلسطيني وتنكيلًا به. ففي كثير من الأحيان، يقيم جنود الاحتلال حاجزًا مؤقتًا لا يبعد سوى مائة متر عن حاجز الكونتينر، ويقوم الحاجز الأول بتفتيش المارة ومن ثم يقوم الحاجز الثاني بالعمل الإذلالي نفسه، وغالبًا ما يقوم جنود الاحتلال بمنع سكان شمال الضفة من عبور الحاجز نحو بيت لحم، ويطلبون منهم العودة من حيث أتوا، في رحلة معاناة تتخللها المزيد من الحواجز التي تنتشر في كل اتجاه.
سيمضي زمانٌ طويلٌ ليصبح حاضرنا ماضيًا مثلنا
سنمضي إلى حتفنا، أوّلاً، سندافع عن شجرٍ نرتديه
وعن جرس اللّيل، عن قمرٍ، فوق أكواخنا نشتهيه
وعن طيش غزلاننا سندافع، عن طين فخّارنا سندافع
وعن ريشنا في جناح الأغاني الأخيرة. عمّا قليل
تقيمون عالمكم فوق عالمنا: من مقابرنا تفتحون الطّريق.
***
نترك الكونتير.. بكل ما يرسمه في حياة الفلسطيني من إذلال ومهانة، إلى مهانة أخرى، تتمثل في عبور طريق شديد التعرجات والانكسارات.
يقول محمد أسد: إنه الطريق الوحيد الذي يربط بين مدينتي الجنوب بيت لحم والخليل ومدينة رام الله، وتسمى طريق واد النار.. التي أقرأ على مدخلها لائحة تقول: "مشروع طريق واد النار، هو هدية من الشعب الأمريكي إلى الشعب الفلسطيني"..
لم أسأل "أسد" أو أيًا من مرافقينا عن دلالة الاسم، ولماذا النار
ترتبط بالوادي، وبالطريق، لكنني بعد برهة أدرك مدلول الاسم ومعناه، فقد أرهقني الطريق، وسبب لي الصداع، حد أنني أسندت رأسي على مقعد الحافلة، ورحت أستمع لأحاديث الأصدقاء دون تعليق مني، فقط كنت أنظر نحوهم وأبوح لحمدان البادي الذي رأيت مبلغ تعبه هو الآخر، فشاركته البوح، بمعاناة العبور في طريق ملتوي، يصعد تارة ويهبط تارة أخرى.
كان الطريق يأخذنا بعيدا عن إتجاه مدينة القدس، المدينة التي نبحث عن رائحتها، أنَّا توجهنا، ونسأل عن قبلتها، فنيمم شطرنا نحوها، ونحاول أن نتبين إنعكاس صورتها على السماء البعيدة..
يا أيّها الذاهبون إلى حبة القمح في مهدها
أحرثوا جسدي !
أيّها الذاهبون إلى جبل النار
مرّوا على جسدي
أيّها الذاهبون إلى صخرة القدس
مرّوا على جسدي.
***
كان علينا أن نزور في البدء عبدالفتاح حمايل محافظ بيت لحم، للتعرف والسلام عليه، هناك في مكتبه في الدور الرابع، من مبنى أثري، أطللنا على جزء من المدينة، عبر نافذة صغيرة، فيما كان عطوفة المحافظ يتحدث عن المضايقات التي يتعرضون لها، بفعل الاحتلال، والحواجز المقامة على الطريق الواصل إلى المدينة، قال لنا إنه يأتي كل صباح من منزله في رام الله، إلى مكتبه هنا، وعليه أن يجتاز ثلاثة حواجز، وأن يرتهن لإرادة الجندي الإسرائيلي، الذي يكون في الغالب من صغار السن، لتزيد إسرائيل استفزازنا أكثر، فهذا الجندي يمكن حسب مزاجه، إغلاق الحاجز، وتأخيرنا أو إعادتنا من حيث أتينا..
قال لنا بصوت واهن: ليس هناك احتلال في العالم، أبشع من هذا الإحتلال، هذا الشعب الفلسطيني بالملايين لا يملك أي شيء في أرضه، غير الهواء، الهواء الذي لو استطاعوا لحاربوننا عليه.
أخبرنا المحافظ كذلك عن إضطهاد الإحتلال لروح المدينة، عن "السرطانات" التي تحيط بها من كل صوب، هذه المستعمرات، التي تطوق الحدود الشمالية للمدينة، وتفصلها بالكامل عن مدينة القدس، التي يجري تهويدها، هذه التي نساها جيل كامل من الفلسطينيين الذين يعيشون في بيت لحم، ولم يعودوا يعرفونها، بعدما فرضت سلطات الاحتلال عليهم حصارا خانقا، وحتمت عليهم الحصول على إذن أمني للخروج أو الدخول إلى بيت لحم.
رأيت الألم في حديثه، وهو يخبرنا عن بيت لحم التي قتلت بالجدار العنصري، الذي يفصل الأخ عن أخيه، ويقطع أواصر الرحم، وينتهك الحقوق، وتقطيع أوصال الضفة، ومنع إقامة دولة فلسطينية، وضم الكتل الاستيطانية، والاستحواذ على أكثر المناطق خصوبة، وكذلك ضم ثاني أكبر حوض مائي في الضفة.
قال محافظ بيت لحم، إن محافظته التي يقطنها 195 ألف نسمة، تحتضن وحدها 22 مستعمرة يتواجد فيها بين 60 ألفًا إلى 70 ألف مستعمر، وكل ذلك من أجل التأثير على وضع بيت لحم الديمغرافي، وتضييق الخناق على سكانها، وإبعادهم عن مساكنهم، أما الأدهى في ممارسات الاحتلال، فهو محو الصبغة الدينية والسياحية عن بيت لحم مهد سيدنا المسيح عليه السلام، وقبلة مئات الملايين من البشر، والتضييق على السياح، بحيث لا يقضون فيها غير زمن محدود، يغادرونها بعد ذلك للسكنى في المدن الإسرائيلية المحتلة.
لكن المدينة لم تركع.. ولم تستسلم.. ولم تخضع، أوقدت جذوة التحدي، وأشعلت الصمود.. كحال المدن الفلسطينية المحتلة من يافا وحيفا إلى كفر قاسم وتل الربيع.
إلى الأعلى
حناجرنا
إلى الأعلى
محاجرنا
إلى الأعلى
أمانينا
إلى الأعلى
أغانينا
سنصنع من مشانقنا
ومن صلبان حاضرنا و ماضينا
سلالم للغد الموعود
ثم نصيح يا رضوان!
افتح بابك الموصود!.
***
على الطريق الواصل إلى كنيسة المهد، كانت أشجار اللوز
تتراءى من البعيد، وهي تحيط بالمستعمرات التي تمددت، بحيث قضمت المساحة الكبرى من مداخل مدينة بيت لحم ومساحاتها، وكانت رضا خضر ممثلة الهيئة العمانية للأعمال الخيرية في الضفة الغربية، والتي انضمت لتصحبنا في زياراتنا إلى المدن الفلسطينية، تخبرنا عن معاناة السكان في فترات قريبة، وكيف أن المدينة عرضة لاقتحامات جنود الاحتلال كل حين، بأسباب وعلل مختلفة.
قالت رضا: إن المواجهات مع جنود الاحتلال لم تتوقف، رغم اتفاقيات السلام الموقعة..
كان الطريق شبه هادئ، في تلك الظهيرة الباردة، غير بعض الحافلات التي سلكت معنا ذات المسار، ويبدو أن وجهتها ووجهتنا واحدة.
كان الصداع الذي ألمّ بي، ونحن في الطريق إلى بيت لحم، قد خف قليلا بعد الاستراحة التي أخذناها في مكتب محافظ بيت لحم، وشاي النعناع الفلسطيني الذي تناولته مع بعض الحلوى الفلسطينية، وكنت قد تهيأت لبرنامج زيارات مكثف، أعده مرافقونا من الرئاسة الفلسطينية في بيت لحم.
في ساحة فسيحة، بدت كنيسة المهد بطابعها المعماري العتيق، تأخذ مكانها في الصورة، وقريبا منها رأيت منارة "المسجد العمري" المسجد الأقدم والوحيد في هذه المدينة.
كانت المساحة الفاصلة بين الكنيسة والمسجد، ساحة تمر عبرها المركبات بتمهل، وبضع مقاهي وأكشاك صغيرة انتشرت في المكان جنبا إلى جنب مع متاجر متعددة البضائع، ومباني رفع عليها العلم الفلسطيني، الكنيسة تأخذ مساحة كبيرة في الصورة.
ثمة نخلتان تطاولان بناء الكنيسة، وبضع شجيرات توزعت في
الانحاء لتكمل جمالية المكان، وتضفي بقدسيته، تهتز لها الأبدان.
واجهة الكنيسة مدعمة بعدة عقود معمارية، يتضح أنها بنيت في فترات زمنية متباعدة، ولها ثلاثة أبواب بالإمكان ملاحظة آثارها تعود إلى حقب مختلفة، وقد بقي منها باب واحد أضحى بدوره بالغ الصغر، وهو عبارة عن مدخل ضيّق منخفض، وفوق المدخل نلاحظ أسلوب الزخرفة البيزنطية والأقواس الصليبية.
حال دخولنا من الباب الصغير، كان علينا الإنحناء، تخيلتها في تلك اللحظة بإنحناءة الخضوع والاستسلام لقدسية المكان، قادنا المدخل الضيق إلى دهليز مظلم بسبب إغلاق جميع نوافذ الواجهة، ثم باب خشبي نحته فنانون أرمنيون قبل ثمانية عقود تقريبا، يؤدّي بنا إلى البازيليك، وإلى اليسار باب صغير يفضي إلى أروقة القديس هيرونيموس فكنيسة القديسة كاترينا.
تنقسم البازيليك إلى خمسة أروقة تفصل بينها أربع مجموعات من الأعمدة الحمراء ما زالت تظهر عليها آثار الرسومات القديمة، أما السقف فهو عبارة عن ألواح من الخشب المكشوف يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر الميلادي وقد تم ترميمه في القرن الماضي.
لم يبق من الموزاييك الذي كان يغطي الجدران سوى آثار قليلة، أما السقف فقد بان عليه التأثر بفعل تسرب المياه، التي ألحقت بدورها ضررا كبيرا لفسيفساء الكنيسة، وغيرها من الأغراض التي لا تقدر بثمن.
كان فريق من الخبراء قد بدأ مهامه في مشروع ترميم الكنيسة، عرفنا منهم أنها المرة الأولى منذ حوالي 200 سنة، وتشمل سقف المبنى وحوالي 40 نافذة، كانت أعمال البناء تجري دون إعاقة دخول الزوار إلى الكنيسة.
قال لنا المهندس جمال الأعرج مهندس مشروع ترميم الكنيسة، وهو بالمناسبة فلسطيني الجنسية: إن المرحلة الأولى من الاصلاح ستستغرق سنة تقريبا، وسيتم إصلاح السقف والنوافذ، كما سيتم ترميم الجص والفسيفساء وخشب الجدران، بالإضافة إلى إصلاح الواجهة الخارجية للكنيسة.
وقفنا عند جانبي الهيكل الرئيسي في صدر البازيليك، لإلتقاط صورة تذكارية، اتسعت فيما بعد لتشمل كل الموجودين، الذين انضموا إلينا إعجابا بزينا العماني، الذي بدا مدهشا بالنسبة لهم.. كانت ابتسامتنا تتوحد في المكان وكأننا نعرف بعضنا منذ أمد بعيد.. علَّق عنها أحد القساوسة بأنها سكينة السيد المسيح تتغشانا في هذه اللحظة، ولم أعلق على قوله، ففي قرارة نفسي يسكن إيمان أكبر، وسكينة أعظم من قوله.
تحت مستوى الأرضية التي تعود إلى الحقبة الجوستنيانية أمكننا مشاهدة فسيفساء قسطنطين وهي عبارة عن أشكال هندسية، قبل أن نلج من المدخل الجانبي الذي يؤدي إلى مغارة الميلاد، وهي عبارة عن شكل قائم الزاوية تغطيه الأقمشة الاسبستية الحريرية الناعمة لحمايتها من الحرائق.
تحت الهيكل الرئيسي كانت هناك نجمة فضية تشير إلى موضع
ميلاد المسيح حسب العقائد المسيحية وعليها عبارة باللاتينية تقول: "هنا ولد يسوع المسيح من مريم العذراء"، وعلى يمين الهيكل الرئيسي كانت هناك المغارة التي تُدعى "مغارة المجوس" حيث كان المذود الذي وضع فيه الطفل يسوع.
كنا ننتقل بين المكانين، ونلتقط الصورة تلو الأخرى، فرادى وجماعات، فيما طوابير الزائرين للمكان تمتد قريبا منا، وقد تم إيقاف دخولهم حتى فرغنا من الزيارة.. استعجلت الرفاق للخروج، فأمامنا برنامج زيارة طويل، لم يكتمل بعد.. حين فراغنا من زيارة الهيكل، رأيت مجموعة من رجال الدين المسيحيين من لكهنة والقساوسة والمؤمنين بالمسيح من أرجاء العالم، الذين يحجون إلى هذا المكان، للتبرك بمسقط رأس المسيح، وهم يقبلون مغارة المجوس، بعدما يخلعون القلادة عن رقابهم، ويجثون على ركبهم، ثم يرسمون إشارة الصليب، ويغادرون المكان.
***
ونحن نتجول داخل كنيسة المهد، وقد عرفنا بأمر حصارها البغيض من قبل قوات الاحتلال، هذا الحصار الذي دام أربعين يوما، وكان يهدف إلى حسب المزاعم الإسرائيلية، إلى القبض على مطلوبين لديهم، بسبب دورهم في الهجوم على قوات الإحتلال.
إلتقينا في داخل الكنيسة، بأحد الذين تم حصارهم، كان يروي لنا الحادثة بشيء من الألم، على الأيام العصيبة التي قضوها تحت الحصار.. تبدأ حكايته في اليوم الثاني من شهر ابريل عام 2002م، حينما اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي  مدينة بيت لحم مهد المسيح عليه السلام، وحاصرت كنيسة المهد لمدة 39 يوماً لم تقرع فيها أجراس الكنيسة لأول مرة في تاريخها، وحرم السكان من أداء صلاة الأحد في سابقة خطيرة لم تعهدها الكنيسة من قبل، ولم تقف القوات الإسرائيلية عند حد حصارها للكنيسة بل أخذت تمطر الكنيسة بقذائف الدبابات ورصاص المدافع الرشاشة ما أدى إلى تدمير وحرق أجزاء كبيرة من مبانيها ومحتوياتها، ولتوقع العديد من الشهداء والجرحى ممن لجأوا إلى الكنيسة أملاً في النجاة من النيران الاسرائيلية التي لاحقت كل ما هو متحرك في مدينة بيت لحم في سلوك يتنافى مع كل الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية واستهتاراً بكل القيم والمعايير الإنسانية.
وقد سجلت عملية حصار بيت لحم وكنيسة المهد إحدى المآسي التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي يوميًا، فقد استخدمت القوات الإسرائيلية الطائرات والدبابات بشكل كثيف وقامت المروحيات الإسرائيلية بقصف عشوائي تركز في محيط البلدة القديمة ومنطقة السوق في المدينة وتلا ذلك تقدم للدبابات والمدرعات والمشاة إلى قلب المدينة تحت وابل كثيف من النيران من جميع أنواع الأسلحة وفي جميع الاتجاهات، فلم يجد الكثير من المواطنين والمقاومين المدافعين عن مدينتهم أمام هذا الهجوم الشرس للجيش الإسرائيلي، ملجأ لهم غير كنيسة المهد آملين أن يكون هذا المكان المقدس ملجأ آمنا، يحتمون به من بطش الآلة العسكرية الإسرائيلية، ولكن الأيام اللاحقة أثبتت للعالم أجمع أن إسرائيل دولة لا تحترم الديانات ولا المقدسات ولا الاتفاقيات الدولية أوالمعاهدات الإنسانية التي أقرها المجتمع الدولي للحفاظ على حقوق المدنيين الذين يرزحون تحت الاحتلال.
ومن هنا بدأت أزمة  كنيسة المهد فقد حاصر الجيش الإسرائيلي محيط الكنيسة بمئات الدبابات وآلاف  الجنود وقام بنصب أبراج عالية حول الكنيسة وإحضار معدات صوتية وكاميرات تصوير للمراقبة، وأجهزة تشويش الخ.. من المعدات التي تم استعمالها لاحقاً.
وبالإضافة إلى حصار الكنيسة التي كان بداخلها ما يقارب
200 شخص من بينهم رجال دين ومواطنون وبعض الأفراد من أجهزة الأمن الفلسطيني، فان قوات الاحتلال أحكمت الطوق على محافظة بيت لحم بأكملها، حيث أصبح نحو 150 ألف نسمة تحت الحصار الخانق للجيش الإسرائيلي، ومنذ اليوم الأول للحصار بدأت القوات الإسرائيلية في تضييق الخناق على المحاصرين مطالبة إياهم بتسليم أنفسهم زاعمة وجود عدد من المطلوبين للقوات الإسرائيلية  بين المحاصرين، وقد لجأ الجيش الإسرائيلي لكافة الأساليب والوسائل التي تتنافى مع كل الأعراف والمواثيق الدولية واتفاقيات حقوق الإنسان، في محاولة  لكسر شوكة المحاصرين وإرغامهم على الاستسلام ومن ثم اعتقالهم، وبناءً على ذلك قام الجيش الإسرائيلي منذ اليوم الأول للحصار بقطع إمدادات الماء والكهرباء، ومنع دخول المواد الطبية والأدوية والمواد الغذائية، وكان المحاصرون يتزودون بالماء من بئر في ساحة الكنيسة رغم المخاطرة بالخروج إلى الساحة إضافة إلى أن مياه هذه البئر لم تكن صالحة للشرب، واضطر المحاصرون نتيجة النقص الحاد في المواد الغذائية، لتحضير بعض الطعام من الأعشاب وأوراق الشجر.
وقد اصطدمت جميع المحاولات واللجان التي شكلت خلال فترة الحصار بالتعنت الإسرائيلي وإصرار الحكومة الإسرائيلية على تسليم المحاصرين لأنفسهم وتقديمهم للمحاكمة أو نفيهم للخارج، وأمام هذا الصمت الدولي والعربي على ما جرى في كنيسة المهد، والموقف الأمريكي المتطابق مع الموقف الإسرائيلي. كانت أزمة الكنيسة تزداد تدهوراً، فيما كان وضع مدينة بيت لحم ينذر بحدوث كارثة نتيجة الحصار المفروض على 150 ألف نسمة، وهو ما دفع القيادة الفلسطينية وبمساعدة أوروبية وأمريكية إلى إبرام اتفاق مع الحكومة الإسرائيلية ينهي أزمة الكنيسة ويرفع الحصار عن محافظة بيت لحم بكاملها وتتعهد إسرائيل بموجبه بعدم اقتحام الكنيسة أو اعتقال أي شخص من المحاصرين وبناءً على هذا الاتفاق تم إبعاد 13 شخصًا إلى خارج الوطن وترحيل 26 آخرين إلى غزة كما تم الإفراج عن حوالي 84 شخصًا.
***
في القاعة التي تحتضن طقوس عيد الميلاد في كنيسة المهد، والتي تقام في يوم 25 ديسمبر من كل عام، بالنسبة للطوائف الكاثوليكية والبروتستانتية، أخذنا مكاننا داخل القاعة ونحن نتعرف على جدول صلوات الطوائف المختلفة (الروم، اللاتين والأرمن) الذي وضع في الفترة العثمانية وما زال يعمل به حتى يومنا هذا.
كان الوقت قد اقترب من المغيب، حين رحنا نتناوب على
التصوير في باحة كنيسة القديسة كترينا، قبالة تمثال القديس جيروم.
في تلك اللحظة كان صوت الأذان القادم من المسجد العمري، يشف آذاننا، فخرجنا من بوابة كنيسة القديسة كترينا، لنجد أنفسنا في الطريق إلى المسجد، هناك التأمنا صفا واحدا خلف عبدالعزيز الجهضمي لنصلي معه صلاتي المغرب والعشاء، قرأ عبدالعزيز علينا بصوته الشجي مستلهما روح المكان الذي نحن فيه من سورة مريم، ما يشنف الآذان ويطرب الفؤاد، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً ¤ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ¤ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً ¤ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً}.
وقبل أن نركب الحافلة، كان صوت حمود الطوقي يناديني ليقاسمني بعض الفلافل الذي قدمه له صاحب مقهى صغير على ناصية المسجد، كانت قطعة الفلافل من أجمل الفلافل التي أكلتها.. فهي تحمل طعم كرم وإحسان أهل بيت لحم، هؤلاء الذين غادرناهم في تلك اللحظة مستقين من روحهم العزة والشموخ.
توقفنا برهة في الطريق، بانتظار مغادرة المستعمرين الذين قطعوا الطريق الواصل إلى بيت لحم، وراحوا يرمون المركبات العابرة بالحجارة ويضرمون فيها النار، أمام انظار قوات الاحتلال التي تتعمد عدم التدخل السريع في مثل هذه الحالات.
بعدها كنا نعبر وادي النار، في طريقنا إلى رام الله.. كان الطريق هادئا إلى حد ما، وكان التعب قد أخذ مبلغه منا، فيما الجندي الإسرائيلي يفرك بندقيته، ويتأهب لصيد آخر، كنا نحلق دون أن نأبه لوجوده، دون خوف من بندقيته، ودون وجل من نظرته الحانقة.. كنا نغني ونضحك، والجندي الإسرائيلي ما زال يحرس الحاجز..
يا سيّد الخيل، ماذا تريد
من الذّاهبين إلى شجر اللّيل؟
عاليةٌ روحنا، والمراعي مقدّسةٌ، والنّجوم
كلامٌ يضيء... إذا أنت حدّقت فيها قرأت حكايتنا كلّها:
ولدنا هنا بين ماءٍ ونارٍ... ونولد ثانيةً في الغيوم
على حافّة السّاحل اللاّزورديّ بعد القيامة... عمّا قليل
فلا تقتل العشب أكثر، للعشب روحٌ يدافع فينا
عن الرّوح في الأرض
يا سيّد الخيل! علّم حصانك أن يعتذر
لروح الطّبيعة عمّا صنعت بأشجارنا.

للحكاية بقية

أقـرأ :