الأحد، 25 نوفمبر 2012

خليفة الهنائي.. رجل من هذا الزمان



لم تكن معرفتي به، أكثر من محاورة صغيرة في موقع تويتر، العالم الافتراضي الذي أطل من خلاله على العالم من حولي، وكأنه يسكن على راحة يدي.. كنت أتفق كثيرا مع اطروحاته ورؤيته حول قضايا اجتماعية وفكرية، اضافة إلى كتابات أو بلغة تويتر تغريدات تظهر صورة الإنسان العماني الأصيل المتمسك بقيمه واصالته، يتحدث عن والده وعن جيرانه وأصحابه وأهل قريته وحتى زملائه في مكتبه بكل حب وتقدير، لا تملك حيال رجل كهذا إلا أن تحترمه، وتقتفي أثر فكره وفلسفته في الحياة.
كان خليفة الهنائي، واحدا من الأشخاص الذين يسعد المرء بالتواصل معهم، ولذلك كنت أسعد حين أجده قد رد على "تغريدة" لي، أو أعاد تدويرها أو تفضيلها، و أسعد أكثر وأكثر حين أجده في صباح آخر وقد أرسل لي تحية الصباح، أو أختصني باشارة في تغريدة له.. كثيرا ما كان يحدث ذلك بمبادرة كريمة منه، وفي أحايين أخرى كنت أستهل صباحاتي بتحيته هو مجموعة من الأشخاص الذين أعتز بمعرفتهم في عالمي الافتراضي، دون أن ألتقي بأي منهم، أو يكون لي تواصل مباشر معهم في عالمي الواقعي.
ذات صباح رمضاني، والشهر الفضيل يمضي في أيامه الأخيرة، وصلتني رسالة على الخاص في صفحتي على تويتر من خليفة الهنائي يسألني إن كنت موجودا في نزوى، ليدعونني إلى تناول الأفطار معه في بيته في وادي سميط..
تفاجأت أولا أن خليفة الهنائي الذي آخال إنه من قاطني قرية الوادي اﻷعلى في ولاية بهلاء حيث سحر الطبيعة، وأصوات المزارعين العائدين من حقولهم تمتزج مع أصوات العصافير العائدة إلى أوكارها، هو ايضا أبن مدينتي بحكم سكنه فيها، ثم سعدت ثانيا لأن الرجل الذي أقدره وأكن له معزة خاصة يدعونني للإفطار عنده، ومهما يكن الذين قام بدعوتهم لهذا الافطار، فكوني واحد منهم، يعني أن الرجل يكن لي تقدير ومعزة، تغمرني بالزهو والسعادة.
كنت يومها مدعوا على افطار عائلي، ولدي انشغالات أخرى، لكنني ازاء دعوة كريمة كهذه، اعتذرت من الافطار العائلي، وأجلت مشاغلي، فمن ذا الذي يفوت لقاء بشخصية كـ خليفة الهنائي، وما أحوجني إلى الاستماع إليه وجها لوجه.
وصف لي الطريق بعدما تبادلنا أرقام الهواتف، وكدت أخطئ في الرجل الذي كان ينتظرني قبيل أذان المغرب أمام منزله، حين توقفت أمام رجل آخر خلته يكون هو، لكنني اكتشفت سريعا أنني اخطأت وجهتي، فعدت لأتحدث مع خليفة ويصف لي المنزل أكثر، وما هي إلا دقائق معدودة حتى كنت أتشرف بضيافته لي في منزله العامر.
لم يكن في المنزل أحدا غيري، فقلت ربما إنني وصلت أول المدعوين، لكنني تفاجأت أن العزيمة كانت خصيصا لي، وكان معنا ثلاثة من ابنائه الذين شاركونا طعام الافطار، عرفني خليفة بهم، واذكر من بينهم سيف الذي كان الأكثر تواصلا مع جلستنا التي تواصلت بعد اداء صلاتي المغرب ثم العشاء والترايح.
في تلك الليلة، وفي جلستنا الأولى تعرفت على خليفة الهنائي "أبو سيف" كما لم أعرفه من قبل، وازددت معزة له ولأفكاره الهادفة، وأعترف إنني استفدت من تلك الجلسة واستمعت إليه أكثر مما استمع لي هو..
كان حديثنا متشعبا لمواضيع شتى، فرضت ذاتها في الساحة المحلية، وليس أهمها قضية المتهمين بقضايا الاعابة والتجمهر.. وتطوعه للدفاع عن الذين تم ادانتهم من قبل المحكمة الابتدائية في قضايا التجمهر بقصد الإخلال بالنظام العام، ومن ثم التشهير بهم في وسائل الاعلام المختلفة، الأمر الذي يعد سابقة، استوجبت المبادرة للدفاع عن هؤلاء المتهمون حرصا على صورة القضاء، وصونا لحقوق وواجبات المواطنة التي تقرها وتنص عليها القوانين النافذة في السلطنة وعلى صدارتها النظام الساسي للدولة.
قال خليفة لي: إن مبادرته هذه بقدر ما وجدت ترحيبا لدى فئات في المجتمع، فإنها قوبلت بتهكم من فئات أخرى، والبعض اتهمه بالسعي إلى الشهرة وغيرها من العبارات، لكن ذلك لن يثنيه، فواجبه تجاه هذه المجتمع ومسئوليته الوطنية تحتم عليه أن يتخذ مثل هذه المواقف، وقد انضم إليه عدد من المحامين الذين تطوع الكثير منهم للدفاع عن المتهمين في قضايا الاعابة والتجمهر.
ومع هذا الحديث كان الكلام يأخذنا إلى أهمية مراجعة بعض القوانين التي تمس حياة المواطن وتتصل بمعاملاته اليومية، وقد ضرب خليفة الهنائي مثال بذلك القانون الذي يؤطر العلاقة بين المؤجر والمستأجر، وكيف أن الكثير من المؤجرين أو المستأجرين يلجئون إلى حل نزاعاتهم في المحاكم نظرا لعدم وجود بنود واضحة تحكم العلاقة بينهم.
تحدثنا في القانون وفهمه، كما تحدثنا في مواضيع مختلفة، وأخبرني عن رغبته الانتقال بعائلته إلى مسقط، وقال إن البحث جار عن سكن مناسب، سيما وانه مكتبه للمحاماة والاستشارات القانونية في العذيبة يتطلب التواجد فيه بصفة مستمرة، والالتقاء بالناس الذين يفدون عليه.
حدثني عن قضايا عديدة رفض الترافع فيها للمصلحة الوطنية، وكانت ستحقق له شهرة كبيرة، لكنه ليس طالب شهرة بقدر ما هو طالب حق، ومساعدة من وقعت عليه مظلمة ولا يستطيع الترافع فيها والدفاع عنه نفسه، واسترداد حقه.
ومع الحديث المتوالي، إلتئمنا مرة أخرى على مائدة العشاء، الذي ساهم أبنه سيف في اعداده، شعرت إنني قريب من هذه العائلة، وأنني أعرف خليفة الهنائي منذ سنوات عديدة، وأن الحديث المنساب معه، يشعرني أنا التلميذ برغبة ملحة في الاستزادة من استاذه.. دون أن يروي نهمه للفكر وعطشه للمعرفة.
كانت الساعة تقترب من الحادية عشر ليلا، وفي تلك اللحظة بدأ عرض المسلسل الشهير "عمر"، فشعرت أن الصمت سيكون رفيقنا ونحن نستمتع برائعة المخرج حاتم علي، وحكاية الفاروق التي جذبت إليها مشاهدي التلفزيون في الشهر الفضيل..
استأذنت من خليفة، بعد خمس ساعات قضيتها في صحبته، مرت كأنها دقائق.. وأنا ممتن لهذه اللفتة الكريمة، ولم أملك أن أقدم لهذا الرجل الذي أكرمني في بيته غير عبارات شكر وجيزة.
في تالي الأيام تابعت مبادرات خليفة الهنائي في مواضيع شتى، كان مثالا للشهامة والنبل، واذكر فكرته الجميلة التي أطلقها عبر موقع تويتر للحد من حوادث المرور، بطريقة مغايرة عن الحملات التوعوية المقدمة في هذا الاطار، سعيا لتحقيق الأهداف التي عجزت هذه الحملات عن تحقيقها، عبر حملة شعبية تهدف إلى تقديم دراسات ورؤى للجهات الرسمية للحد من الحوادث المرورية، وتعمل على نشر التوعية بطرق مبتكرة وناجعة.
كان الفكرة بحد ذاتها جيدة ورائدة، وقد جذبت الكثير من الشباب إليها، وانضوى تحت رايتها العديد منهم الذين شكلوا فيما بعد لجان متخصصة تعنى بالهندسة والقانون والاعلام والتنظيم وغيرها، وقد سلم خليفة راية هذه الحملة التي اطلق عليها حملة درب السلامة، لجنة رئيسية تشكلت عضويتها من مجموعة من المتطوعين الذين رشحتهم اللجان الفرعية لعضوية اللجنة الرئيسية، كان خليفة الهنائي يتوق بهذه الحملة إلغاء ظاهرة نسب العمل لشخص أو أشخاص محددين، ساعيا لتقديم تجربة تحترم العمل الجماعي وتلغي فكرة الأنا.
كان متحمسا لها أيما حماس، وقد بدأت لجان الحملة بعقد اجتماعات متوالية وقدمت مجموعة من الافكار بدأت العمل عليها، كان خليفة الهنائي رغم مشاغله واعماله اليومية، وظروف انتقاله إلى المسكن الذي استقر عليه في مسقط، يتابع عمل اعضاء اللجان، ويحثهم على العمل وبذل الجهد من أجل قضية اجتماعية، والحصول على ثقة الحكومة في قدرة الشباب على العطاء المتقن في أصعب الملفات والمواضيع بعيدا عن الطرق التقليدية.
كان خليفة الهنائي وهو يفتح مكتبه تارة وبيته تارة أخرى لاعضاء حملة درب السلامة للإجتماع ومناقشة الافكار المطروحة، يبث الثقة في اعضاء الحملة، ويؤكد على قدرتهم على إثبات حسن اختيار اللجان لهم، وأن نجاحهم سيقود لنجاحات قادمة بإذن الله.
لكن الآمال التي بنى عليها خليفة الهنائي، تحطمت بفعل فاعل أو مجموعة فاعلين.. غير أن خليفة مع كل ذلك ظل صامتا لا يوجه اللوم أو يحمل المسئولية لأحد، محافظا على نقائه، وصفاء سريرته، تاركا لمدير الحملة والاعضاء الاجابة عن سؤال الاختفاء و تواري الحملة الذي يطرح هنا أو هناك.
ولم يتوقف خليفة عن المبادرة والاسهام في كل ما من شأنه رفع الوعي القانوني للإفراد والدفاع عن حقوقهم، وأشير هنا إلى مرافعته للدفاع في قضية التجمهر لدى محكمة الاستئناف بمسقط، واقتطف هنا منها "من الثابت قانونا أن جريمة التجمهر بقصد الإخلال بالنظام العام تتطلب قصدا جنائيا خاصا يتمثل في إنصراف إرادة المتهمين إلى إحداث إخلال بالنظام العام ـ  فتجمع أو تجمهر عدد من الناس لا يشكل جريمة في حد ذاته – وإنما يجب أن يكون هذا التجمهر مقرونا بنية الإخلال بالنظام العام ـ وهذا القصد الخاص هو مناط تأثيم فعل التجمهر والقول بغير ذلك مؤداه خضوع أي تجمعات بشرية في أي مناسبة اجتماعية أو دينية أو ثقافية للتجريم وهو ما يتنافى ومنطق الامور".
أقول لم يتوقف خليفة الهنائي عن المبادرة والاسهام في رفع الوعي القانوني والتعريف بالحقوق والواجبات، فقد قرأت اليوم الأحد (25 نوفمبر2012م) استعداده للتطوع لرفع دعوى تتعلق بموضوع الاتصال عبر الانترنت، وهي قضية مهمة شغلت الكثير من عملاء شركتي الاتصالات في السلطنة، بسبب دفعهم مبالغ لخدمات وتطبيقات لا تشتغل في السلطنة.
ولن نغفل في هذا الاطار مبادرته القائمة على رفع الوعي القانوني لطلبة المدارس، ومحاولاته ادخال شيئا من القانون في منهاج الدراسة، بالاضافة إلى حضوره ومشاركته في الندوات التي تعنى بالحرية والفكر والقوانين.
وأخيرا يظل أسم خليفة الهنائي من الاشخاص الذين يعتز المرء بمعرفتهم، فلا حاجة إلى الاسهاب في شخصه المتواضع، وخلقه الرفيع، واطلاعه الواسع، وقراءته المتعمقة في مجالات الفكر والأدب والثقافة، وهو فوق كل هذا وذاك، واحد من أهل هذه الأرض التي يعتز بالانتماء إليها، كما تعتز هي أن خليفة بن سيف الهنائي واحد من ابنائها الطيبين.


مسقط ـ في 25 نوفمبر 2012م

السبت، 17 نوفمبر 2012

ابراهيم سعيد .. سحر الكلام وسحر الشعر


اعترف بدءا أنها ليست قراءة نقدية، ولا تنشد ذلك، بقدر ما تسعى للتنويه بكتاب أجد أنه لم يأخذ حظه من الاهتمام رغم قيمته الفكرية ومضمونه حول التأويل الدلالي لمفردة "الشعر" بالنبش عنه بين ثقافات وتراث الشعوب، وهو ما تفتقده المكتبة العربية إلا فيما ندر من مؤلفات يسيرة.
في (سحر الكلام) يحلق الكاتب ابراهيم سعيد مع روح الشعر، المنسلة من ثقافات وآداب واساطير حضارات تلاشت، وأمم انطمست، وشعوب ما زالت تحمل أوزارها، ولم تضع ثقلها بعد، ينبش ما يشي إلى الدلالات والمعاني التي يحملها الشعر في جوهره، ويتضمنها القصيد بين مفرداته، دون أن يخرج عن مسارها، وكأنه ملازم للحظة ميلاد الشعر، وانبثاق مفرداته من رحم الأسطورة، أو من خزائن ثقافة أمة، أو مدفون في تراث حضارة بالية، دون أن ينشغل بالقضايا التاريخية والتأويلية المرتبطة بهذا النص أو ذاك، وإنما ينهل من زهر القصيد مراده، ثم يطير إلى زهرة أخرى وينبش رحيقها، ويخرجه كلاما مصفى، لذة للقارئين.
ابراهيم سعيد القادم من بدية، المحمل عبق وجماليات هذه الولاية البهيجة، ما ان تطالع كلماته، حتى ترى في تخومها التفاصيل الساحرة للطبيعة الجميلة، حيث الصحراء تمد رمالها لتتشابك مع السماء في آخر الأفق، والشمس ترسل اشعتها فيحتضنها سعف نخيل الواحات المتوزعة بين فيافي الصحاري، وتنعكس صورة السماء في بقعة كأن الماء يلفها والريح تتخللها، فينساب من بينها عطرا خالدا، يغوي على البقاء في هذا المكان.
أما ليل بدية فحدث عنه، ولا تنسى جمالية القمر فيه وهو يختال بين نجوم فرحة باضاءة هذا البقعة من الأرض، هناك يمكن للمرء ان يتمدد على كثبان الرمال في لحظة تأمل، ويرسل بصره للسماء، دون أن يرجعه مرة اخرى، فالغواية تسكنه على الابحار في فضاءات بدية، والتحليق نحو السماء، والاستماع إلى همس النجوم، وصوت الليل الصاعد، يحمل الروح حين تنسل من الجسد، دون أن تفارقه، وتسكنها الخفة، فتنعتق من الجسم الذي يكبلها ولا تمنع عنه الحياة.
توافق بديع للطبيعة في بدية
من هذا البذخ الجمالي للطبيعة البديعة ليلا ونهارا في بدية، يأتي ابراهيم سعيد محملا بقيم الجمال ومعانيه، كنسمة (كوس) تهب من نخلة تداعب وجه الريح، وتفسح للعصافير مكانا تغرد فيه.. فتختلط زقزقاتها، بالفراشات الساكنة اشجار الغاف والسمر؛ مما يغري السحب فتكتمل اللوحة زهوا، بعناق المطر والرمال.
ابرهيم سعيد كما هذه الطبيعة الرائعة التي تلونها بدية بألوان الطيف، لا تملك امام كلماته، إلا الوقوف مشدوها، وروحك تحلق بين مفرداته، وهي تتلذذ بكل حرف ومعنى، ولذا لا غرابة ان يحمل اصداره الثاني عنوان (سحر الكلام)، على الرغم من أنني ازعم إن اضفاء صفة السحر على الكلام قصد بها ابراهيم ان تكون لاستشهاداته التصديرية، التي جعلها مفتتحا للتأويل، يجوب بالشعر في بحار الأساطير بين الحضارات وأمم سابقة ولاحقة.
(سحر الكلام) هو الاصدار الثاني لابراهيم سعيد، المقل في اصدار الكتب رغم الحصيلة الواسعة لديه من المقالات والنصوص التي ينشرها في مطبوعات ورقية، من صحف ومجلات، بجانب حصيلته من المواضيع والنصوص التي نشرها عبر مدونته التي تحمل اسمه، أو عبر مواقع إعلامية إلكترونية ومنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي على شبكة المعلومات، ويحسب للشاعر سيف الرحبي تبنيه لفكرة هذا الاصدار، الذي هو عبارة عن مجموعة حلقات كتبت ـ كما يقول كاتبها ـ لصالح الإذاعة العمانية في ربيع 2008م، وقد بثتها الإذاعة حينها بفريق عمل لطيف.
ولأن الكتابة للإذاعة شيء، وإخراج هذه النصوص في كتاب شيء آخر، فقد اعاد الكاتب ابراهيم سعيد تحرير مادة الحلقات بما يتناسب مع هيئتها الورقية الجديدة، دون أن يفقدها بريق النغم الذي تغلفت به إبان بثها اذاعيا.
وللإشارة بدءا، فقد اصدر ابراهيم سعيد قبل (سحر الكلام) مجموعة شعرية يتيمة حملت عنوان (معمار الماء)، وقد صدرت عن دار شرقيات في مصر العام 2006م، ورغم اللغة الشعرية الرفيعة لمجموعة (معمار الماء)، والنصوص الممزوجة برائحة المكان العماني، وجمالية الموسيقى الصاعدة منها، إلا أن ابراهيم انضوى بعيدا، وكأنه يحسب لخطواته القادمة، ولا يريد أن يضع اسمه على كتاب دون أن يثق تماما، أنه قادر على المشي في لجة الماء، دون أن يبتل.
وللدلالة على لغة ابراهيم الشعرية، ورقي المفردات عنده، واللغة التي تلبسته في نصوصه النثرية اللاحقة، نشير إلى مقطع من قصيدته (معمارُ الدهشات) التي يقول في أحد مقاطعها:
من بُحيرة ِ النيازك ِالتي أبدَعْتُ
أسقيتني وعلمتني
في معمارِ الماء أقفُ
أنسجُ منَ الأفقِ والبحرِ وشرارةِ الأجرامِ ولطائفِ الهواءِ النديِّ
مواقف حياة الجمال والبهجة
أزلاً للأبد.
لكن ابراهيم الذي توارى عن اصدار مجموعة شعرية ثانية، لم يقطع اتصاله بقارئيه، فاطل عليه بنصوص نشرت في مواقع مختلفة، حتى كانت التجربة الاذاعية له في إعداد حلقات برنامج تعنى بالتأويل الدلالي للتراث العربي، هذه الحلقات التي اجتذبت جمهورا من المستمعين بفضل لغتها الرقيقة، ومفرداتها الجزيلة، وحروفها المدهشة، وانتقائها الفريد للمعاني والدلالات التي تضمنها، حتى خرجت للقراء ورقيا ضمن كتاب مجلة نزوى الفصلية في أكتوبر 2012م.
ولن يفاجأ القارئ كثيرا، وهو يقرأ نصوص الكتاب، فكأنه يقرأ الشعر بعينه، أو هو أقرب إلى إيقاع موسيقي تبعثه مفردات النص، حين تسبر أغوار الشعر، وتقبض على روحه الهائمة في ملكوت القصيد، متتبعا السر العجيب الذي تضمه بين دفتي حروفها، كما لؤلؤة تختبئ في محارة تسكن قاع بحر سحيق.
يقبض ابراهيم سعيد على روح الشعر من منابعه، حين يطوف على اساطير سومر وبابل والاغريق وقبائل العرب وحضارات من الشرق والغرب قديما وحديثا، ليرينا من كلماته، كيف أن البيت الشعري الجميل لن يموت، ولو تطاول عليه الزمن، وتبدلت الأيام وتعاقبت السنون، (فمرور الزمن الشعري ليس كمرور غيره من الأزمنة، الزمن الشعري زمن يكبر فيه الشعر ولا يذوى ولا يشيخ ولا يهرم ولا يموت، هكذا يتنامى ويتسع الكون الشعري مزينا بأقراط القصائد والقلائد والأسوار والتيجان والعواضد والأحجال والخواتم، بمجوهرات الشعر والجواهر الشعرية التي تتلألأ كالنجوم في أنهار المجرات وبحيرات الكون).
يستفتح الكلام سحره، باستهلالة من الأساطير السومرية، يقول نصها: (أيها الملك يا شجرة (الميس) القائمة في (الأيسو) مشرفة على الأرض/ المنتصبة في (إريدو) كتنين شامخ/ تحمي العالم بظلها أيها البستان ذو الأغصان المنتشرة على البلاد كلها).
هذه الاستشهادية تصدرت نص "شعر في ثياب الأساطير" ولنلاحظ هنا الاختيار المبهر للعناوين، وكيف تم انتقاء مفرداتها بعناية تامة، تبعث ذات السحر الموسيقي الذي سنلمسه في باقي نصوص الكتاب، من قبيل عناوين مثل النشيد والتاريخ وقيثارة شريدة وخيول الشعر السكرى وطعم الأعشاب الشعرية وإدخال الروح في الكلمات وقلب الشعر البدوي وعناوين جمالية أخرى على ذات النسق البديع.
إن المتأمل في نص مثل "شعر في ثياب الأساطير"، يجده لا يعرج كثيرا على حضارة سومر، ولا يتحدث عن تعدد الآلهة في فترة السلالة السومرية، لدرجة أن أصبح لكل شيء إله ولكل ولاية آلهة، بل سيقرأ ويطالع اللغة الساحرة التي تحكي عن مقدس، وكيف تبني القصائد بطوب الفخامة اللفظية، وسيعرج ـ وهنا تتجلى بلاغة التأويل ـ، إلى شعر لأوزوريس في الأسطورة الفرعونية.. مستشهدا به ليكمل نسق بناء الدلالة، ويرصد معنى الشعر وكيف استطاع أن يثبت جمالا ذائبا ومتماهيا وذاهبا وعلى وشك التلاشي في الزمن ؟.
ينساب الشعر ويتحرك، وبتحركه ينساب الكلام، ينساب من أسطورة سومر ليعبر إلى الأسطورة المصرية "أوزوريس"، الذي يعدّ عند عرب وادي النيل بطلا ثقافيا، وأب ربّانيّ لشعبِ مصرِ النيل، وقد أصبح أوزوريس سيّد الحاكمين في مملكة الموتى يتولّى حسابهم حيث يجازي الأخيار ويعاقب الأشرار، فقد كانت العقيدة المصرية القديمة تؤمن بالبعث والحساب، وكان للعقائد الجنائزية والاحتفاء بالموتى مكانة كبيرة عندهم، وتسرد الأسطورة مشهد ما بعد موت "أوزوريس" ورحلته إلى دار الأمن ومقرّ الأرواح وعالَم الموتى حيث يُقيم مُنتظراً ذرّيته وشعبه لحسابهم.
لكن إبراهيم لا يتطرق لكل ذلك، فهو غير معني بنبش الأسطورة قدر عنايته بنبش جمالية المفردة الساكنة فيها، ولذا نجده يرصد مكامن المعنى في غناء الآلهة الفرعونية إيزيس، وينصت للأنغام التي تنبعث من ناي أوزوريس والتي تغني عليها إيزيس أغنيتها الرائعة.
يكتب ابراهيم في هذا المقام عن غناء إيزيس وعن اغنيتها الرائعة (في نبراتها الصفاء والانقباض على السواء، ذلك الصوت الذي ينتقل من الضد للضد أيضا: من هبوب العاصفة العاتية إلى شروق الشمس الناعم، ذلك التعبير الخالص عن الحب اللانهائي، إنه الأسلوب الوحيد للتعبير عن المجهول، وهنا لا مناص من أن يكون التعبير عن الحب اللانهائي بالتعبير اللانهائي، أي باللغة المفارقة التي يجري سبكها في الهيروغليفية).
ثم ينتقل ابراهيم في نص تال، إلى نبش نص الطوفان البابلي، ولا يعرج الكاتب إلى ايضاح هذا النص إلا بشكل يسير، يقول إنها معروفة في عالمنا المعاصر بطوفان نوح، رغم ان الأولى اسطورة والثانية حقيقة لا لبس فيها.
ومرة أخرى أشير إلى مرد ذلك ـ عدم ذكر تفاصيل قصة الطوفان البابلية ـ لأن التأويل يقتفي أثر الشعر، ويتتبعه من اسطورة إلى أخرى، ولا يرنو إلى غير ذلك (وفي معظم القصائد الخالدة قديما وحديثا نعثر على أسطرة الوقائع على قصص تصير مرفوعة بالخيال إلى مستوى رفيع ويعاد انتاجها في الواقع).
ان المتأمل للاستشهادات التصديرية التي تفتتح نصوص الكتاب، جلها يدور حول الاساطير والشعر، ويربط ما بينهما خيط رفيع، لا يدركه إلا ماهر حاذق، يمتلك الفراسة والبصيرة، ليستل روح الشعر من كيان النص، ثم يعزف على أوتارها لحنا شجيا، يخيل لك أنك تسمعه وأنت تقرأ نصوص الكتاب.
فمن بعد نص سومر، والطوفان البابلي، تصادفنا مقاطع مستقاة من القصيدة الشهيرة للشاعر اليوناني هوميروس الإلياذة ويحبك الكاتب على منوالها إلياذة أخرى، تتدثر بدفء الشعر وهو يعزف على قيثارته، كما هوميروس الذي لن يصمت.
(لن تصمت يا هوميروس/ فالقيثارة الخالدة لا تزال بيدك/ والقلوب هي القلوب/ فدع أوتارها تملأ الدنيا رنينا/ فقد أوسعتنا هذه الدنيا أنينا..)
ويأتي النص متسقا ومتوافقا مع المقطع السابق، (لن تصمت يا هوميروس لأن القيثارة الخالدة بيدك، والقيثارة الخالدة هي القيثارة الخارجة من حدود تأثيرات الزمن، إنها القيثارة التي ستدوم مهما تغيرت الحقب، القيثارة التي ستعزف كأنها لا تزال جديدة بين يدي هوميروس..).
ومرة أخرى تتجلى قدرة الكاتب على الامساك بأدواته، والربط في الروح والمعنى بين نصوص الكتاب، وكأنها كينونة واحدة، بذات الروح، فالقيثارة التي بيد هوميروس، هذه القيثارة تؤكد خلودها حينما تصادفنا في استشهاد يتصدر نصا آخر معنونا بـ(إدخال الروح في الكلمات) والذي يتصدره مقطع شعري للكسندر بوشكين:
(لا لن أموت كلي/ روحي في قيثارة أليفة/ ستحيى رفاتي وتمنع انحلالي/ وسأكون مجيدا طالما تحت القمر/ بقي حيا شاعر واحد).
ولننظر في هذه الاستشهادة، والمفردات التي تحتضنها من قبيل.. قيثارة/ روح/ لن أموت/ سأكون مجيدا، سنجدها تتفق مع مقاطع الإلياذة توافقا عجيبا، نقرأ دلالته بأن (الأبيات هي ما يتبقى من جسد الشاعر بعد موته، فهي رفات جسده الذي ذهب، لكنه رفات من الكلمات، رفات الكلمات السحرية التي لا تموت بل تمنع انحلال الشاعر وانمحاءه في التراب).
ثم لننظر إلى استشهادة أخرى في نص "ميراث البيت الشعري" للشاعر العباسي دعبل الخزاعي (سأفضي ببيت يحمد الناس أمره ويكثر من أهل الرواية حامله/ يقول إذا ذاق الردى مات شعره وهيهات عمر الشعر طالت طوائله/ يموت ردئ الشعر من قبل أهله وجيده يبقى وإن مات قائله).
ومجددا نلمس دلالة البقاء والخلود للأشعار الجميلة والقصائد الرائعة، فكم شاعر مجهول المكان والقبر والسكنى والأهل، ولا شيء يدل عليه بعد الأعوام والدهور ويبقى شعره خالدا يدل عليه، وهنا تأتي استشهادة أخرى في قلب نص من ابن الرومي، يلتقطها ابراهيم سعيد بحرفية صياد ماهر؛ ليعطي الشعر حقه، ويبين مكانته الحقيقية، ويؤكد أن الشاعر خالد بشعره، (وليس أحد يعرف حق الشعر كالشاعر)، والجملة الأخيرة مقتبسة من فقرة في نص العقل والشعر، يريد الكاتب بها ابن الرومي، لكنني أريد بها أنا الكاتب نفسه ابراهيم سعيد، الذي عرف حق الشعر، وتتبع روحه المدفونة في نص منسي، ونص متداول، ومزج بينما تمازج الأرواح.
يقول ابن الرومي (واعلم بأن الشعر ليس بائدا بل خالد إن كان شيئا خالدا).
ولا يكتفي الشاعر بذلك البيان، بل يستل من ابن الرومي بيت آخر يقول فيه: (أرى الشعر يحيي الجود والبأس بالذي تنقّيه أرواح لهُ عطراتُ/ وما المجدُ لولا الشعر إلا معاهدٌ وما الناس إلا أعظمٌ نخراتُ).
وهذا البيت ينسب ايضا لأبي تمام، وقد ذكر في بعض المصادر تبقّيه أرواحٌ.. وليس تنقّيه، ومهما يكن فابراهيم سعيد ـ كما أشرت ـ لا يتفرع في بحث ما اتفق عليه وما اختلف، كما لا ينشغل بالحواشي التي تخرج السياق عن مساره.
ولأن الحديث عن الشعر وموسيقاه وقيثارة هوميروس الخالدة و ناي أوزوريس، فإن صوت الموسيقى ينبعث في استشهادة من مسرحية حلم ليلة صيف للكاتب المسرحي الانجليزي وليام شكسبير، يقول فيها (موسيقى.. موسيقى حتى كأنها تسحرُ النوم) يتتبعها الكاتب بالإشارة (إنها الموسيقى التي تسحر السحر، الشعر وهو في المعزوفة الأوركسترالية على المسرح، الشعر وهو في الموسيقى الأوبرالية، موسيقى كأنها تسحر النوم، النوم الذي يصفه شكسبير بمخفف الآلام على لسان الملك لير: "تعال أيها الرقاد الهادئ يا مخفف آلام البشر").
إنه سحر الكلام، سحر الكلام الذي (يسبح في تيار الزمن، السيوف سيوف بأفعالها، ومضائها، ليس بشكلها، ولا يمكن أن نجد أشكال السيوف في غير السيوف، إنما تتبع السيوف أفعالها، كذلك الشعر لا يتبع أشكاله بل يتبع أثره وسحره، هكذا يسبح سحر الكلام في تيار الزمن ويتقدم).
ولأننا نقتفي سحر كلمات ابراهيم سعيد ونحاول الاقتراب من عالم الشعر المدهش، هذا الذي كلما طرقنا بابا للجمال، وجدناه يسكن هناك، فإننا نكتشف كما يخبرنا ابراهيم أن اسم الشعر في السومرية هو: سر، هكذا إذن يجتمع ذلك المعنى فيما كنا نبحث عنا وسر الكلام هو شعر الكلام، وهو هنا سحر الكلام، سحر السحر، سر الشعر.
هذه التقاطيع المقفاة، أو النثر الموزون، هي من يبعث اللحن الموسيقي الذي يستمعه القارئ من اول اسطر الكتاب وحتى منتهاه، وهنا يبزغ سر آخر، سر قيثارة الخلود، التي امسكها ابراهيم وعزف عليها لتنساب الكلمات بسحر يطرب الآذان، ويآسر القلوب، وإن من البيان لسحرا.

مسقط ـ في 13 نوفمبر 2012

عن فراس التوبي ... وطاولة وحيدة في مقهى وحيد (2 ـ 2)


ومضى اللقاء الثاني بفراس التوبي سريعا.. ولم أقل بعد ما لدي من كلمات، كنت أريد أن ابوح مشاعري لهذه البلاد التي أحببتها، فأنا لم أشعر هنا بالغربة والبعد عن وطني الغالي، ربما لأن شعب هذه البلاد أحتضنني بكل ود وترحاب.. وجدت في قلوبهم النقاء والصفاء وحب الآخر طالما أن الآخر يحبهم.. لا يضمرون شرا لأحد، ولا يكيدون أو يخادعون.
ساعتين.. تزيد أو تنقص قليلا، لكن دقائقها كانت سريعة، حد أنني لمحت في وجه محدثي الانشغال، وقد أخبرني حينها عن تعدد مهامه ومسئولياته، وكيف أنه يحمل ثلاثة هواتف كما رجال الاعمال والاشخاص المهمين، غير إنه ليس مثلهم، هو انسان بسيط لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ..لكن الظروف فرضت عليه ذلك.
أبتسم فراس وهو يكشف لي سر الهواتف الثلاثة: الهاتف الأول عمومي، والثاني للأهل، والثالث لـ....
وغادرنا المقهى بعدها.. ونحن نأمل في لقاء آخر، خلال يوم أو يومين..
في السيارة رأيت استعجال فراس على موعده، ومحاولته السرعة لإيصالي إلى سكني في الفندق، فطلبت منه أن يذهب إلى مشواره، وأنا ساتصرف في أموري، كان مترددا في الموافقة على هذه الأمر، لكنني ألحتت عليه، ونزلت لأواصل مشوار العودة بنفسي..
وراح فراس يعتذر ويتأسف.. على تركي وحيدا.. قلت له أنني أعرف هذه البلاد ولا خوف عليّ.
وتركته، أو بالأحرى تركنا بعضنا.. وذهب كل منا إلى حال سبيله، كان ليل الرباط بنسماته الدافئة، والشارع الممتد بامتداد الأشجار المحيطة حوله، باعث على التسكع حتى الوصول إلى الفندق، دون الحاجة إلى استقلال سيارة اجرة.
ومشيت، قليلا ثم قررت أن أخذ المسلك اليمين، وواصلت طريقي حتى وجدتني بعد برهة قصيرة أقف قبالة الفندق، يا ألهي، لقد كنت قريبا جدا من المكان، وفراس يخال أنه أنزلني في مكان بعيد.. وكأنه لا يعرف مدينته.
بعدها أرسل فراس رسالة يطمئن على وصولي للفندق، ويعتذر مرة ثانية وثالثة.
كان برنامج الزيارات المعد لوفدنا في المغرب متنوعا بين زيارات ثقافية وفنية وسياحية، وكنت أستمتع في برنامج وأضجر في برنامج آخر..
كان فراس واحد من الاسماء التي ترشدني عن بعد إلى الأماكن التي ينبغي عليّ زيارتها، لقربي منها..
في مدينة اصيلة طلب مني الذهاب إلى مقهى زريرق والسؤال عن حسن باقر وهو رحالة عُماني عشق أصيلة، أحبها و مات بها.
وفي طنجة ارشدني لزيارة مقهى الحافة حيث أرواح محمد شكري و تشرشل و بول بالز و جان جوني و أخرون.
في يوم تالي، وفي اذاعة أصوات المغربية في الدار البيضاء، ألتقيت بفراس صدفة، كان قد جاء إلى الاذاعة ليحل ضيفا على برنامج أولاد البلاد للحديث عن الموسم الثقافي لداباتياتر.. وكنت مع الوفد قد أنهينا جولتنا في اقسام الاذاعة..
تحدثنا سريعا، وقلت له إننا قد نلتقي الليلة أو بعدها..
ولم يتم اللقاء ليلتها، فقد قضاها فراس في الدار البيضاء بعد عزومة عشاء تلقاها هناك.
وفي يوم آخر وبعدما سنحت الظروف، كنت اتصل به وأنا قريب من المقهى دون أن اعرف مكانه بالضبط، ودلني عليه، حتى حفظت الدروب حوله، كما حفظت مكانه.
كان مقهى الفن كما عرفته أول مرة هادئا.. إلا من شخص أو اثنان يتوزعان في الطاولات الداخلية، أشرت إلى فراس أنني أحبذ الجلوس في الطاولة التي جلسنا عليها أول مرة.. وكان لي ما أردت..
لكن لقاء هذه المرة كان مختلفا بعض الشيء عن اللقاء الأسبق، فقد شاركتنا الطاولة فتاة مغربية عرفتنا باسمها، وأستأذنت للجلوس معنا، ورحبنا بها.
وأعترف هنا.. أن نهى ، وهذا هو أسمها أخذتنا بعيدا ، وصرنا نتحدث معها عن عُمان وطبيعتها وموقعها وتاريخها وجغرافيتها ونعرض صورا لبلادنا .. وراحت هي تحكي  عن دراستها للتمريض في روسيا وأسفارها إلى باريس وعواصم اوروبية اخرى.. ومن ثم عالمها في الفيسبوك وما إلى ذلك.
كانت جلستها ثقيلة على نفسي، ولذلك تركتها ورحت أتحدث مع فراس بلكنتي العُمانية، واواصل سرد اخباري وأنا اتنقل بين مدن المغرب.. وسط امتعاض منها وربما غضب.
تحدث فراس مرة أخرى عن شوقه لعُمان، وترقبه انتهاء دراسته للعودة إلى وطنه الذي يحمله معه أينما ذهب.. قال أن شوق الوطن يتصاعد!.
وقلت أن الحنين دائما يأخذنا إلى الوطن، ولا يمكن لأي بلاد أن تكون صورة مقاربة للوطن الجميل، الوطن الذي نعتز بكل ما فيه .. نعتز بقائده.. وبنهضته.. باتفاقنا معه أو حتى اختلافنا.. سيظل الحياة التي تدب في أوصالنا.. والحلم الجميل الذي يسكننا.
كنت أرصد مشاعر فراس وهو يتحدث عن وطننا.. وأرى دمعة خفية، وكلمات مرتعشة، تختلط بألم الشوق والحنين.
تحدثت معه في كتاباته عن الوطن، وكأني معه حين يكتب، وحين ينبئ عن مشاعره، وحين يسرد افكاره ورؤاه.. الكتابة يا صديقي ليست نقطة حبر ندلقها على ورقة بيضاء وكفى.. أو كلمة نطلقها للريح لنعّبر عن أحاسيسنا ومشاعرنا.. ليست مسألة سهلة أن تطلق حكما لا تعرف أبعاده، ولم تحط به خبرا.. لذلك أنت تعلم هذه الحقيقة، وتعود كثيرا لتعديل فكرة طرحتها هنا، أو قلتها هناك، إنك تعرف الصواب ولا تخجل من اعلان خطائك وتسحب كلماتك أو تستبدلها بما توصلت إليه لاحقا.
أعرف أن حال فراس التوبي.. كحال الكثير من عشاق هذا الوطن، لا يتحملون رؤية أي قصور أو خروج عن الصورة الحالمة التي يرسمونها لمعشوقهم، هم يريدونه دائما بهيا زاهيا متأنقا متألقا.. ولا يقدرون على رؤية خدش صغير في لوحة الوطن الجميلة.
فراس البعيد عن الوطن الآف الأميال.. الذي تفصله عن عُمان بلاد وصحاري شاسعة، أشعر أنه يسكن في كل شبر في عُمان، هو يتابع كل اخبار الوطن، ويفتش عن كل مستجداته، يعرف ما لا نعرفه نحن المقيمين فيه، إلا بعد حين من الزمن، ذلك إنه ينام على صوت وطنه، ويصحو على صورته..
اخبرني أنه يحادث جده المقيم في عُمان بشكل شبه يومي ولفترات طويلة، قال انه لا يمل من الحديث معه.. كما أنه يتواصل مع العديد من اصدقائه ومعارفه في عُمان، ويتابع اخبارهم.
بين الدراسة .. والعمل المسائي .. وبين عشق المسرح .. والاشتغال عليه ... وبين واجباته الاسرية واهتمامه بعائلته .. بين كل ذلك تبرز عُمان بصورته المتأنقة البديعة ، لتشكل حضورها ، وتفرض وجودها .. والفتى بين عشق ديار أهله هذه التي يدرس فيها ، وديار يحن إليها قلبه .. ويجد نفسه الأقرب هنا تارة ، والأقرب هناك تارة أخرى .. لكن قلبه ينتصر دائما لوطنه الغالي .. فلا يرتضي عنه بديلا .
لكنني مع كل تعمقي في شخصية فراس ، ومعرفتي بهواجسه وأفكاره ، مع كل نجاحي في قراءة افكاره ورؤاه .. لم أستطع الوصول إلى اجابة لسؤال وضعته على طاولة المقهى .. وألقيته على مسامع فراس.. ولم يجب ، وكنت اتوقع ذلك ، فالسؤال الذي تشكل عليّ أنا الذي يزعم حدس فهم الآخر ، لا أدري أن كان نابع عن حقيقة ، أم مجرد هواجس وظنون .
كان فراس وهو يجلس أمامي ، ويتحدث عن أحلامه وأمانيه ، شخصا مختلفا عن فراس الذي أقرأ كلماته في مواقع الانترنت المختلفة، ولا أعرف من أي ناحية ، لكني أرى في شخصية الكاتب قوة وشكامة وسطوة لا ألمسها في الجالس أمامي بعفويته وبساطته ونقائه وكل الصفات الاخلاقية الجميلة .. دون أن ألغي هذه الصفات الجمالية من فراس/الكاتب.
فراس/ الانسان الذي التقيته وجها لوجه في الرباط، انسان وديع، يحاول أن يوفق متطلبات حياته، ويقتفي أثر أحلامه، هو يريد أن يكون كل شيء، ليس ليحقق لنفسه مجدا أو مكانةً بارزة، وإنما ليحقق للحلم الذي يسعى إليه المجد والريادة.. وليس حلمه أكثر من أن ترفع ستارة المسرح على عمل فني يحمل بصمته، ويسمع تصفيق القاعة.
ليس حلمه أكثر من أن يكون شباب وطنه في أمن وسلام، ويعيشون في حرية وكرامة، وأن يسمعهم الوطن.. كما هم يسمعون له، وهو وان اختلف مع أحدهم أو بعضهم فانما اختلاف اراء لا اختلاف ود واحترام.
وكم من بيننا من يختلف معك في الرأي.. فتفقد بعدئذ وده وتقديره، ولا يكون لك عنده شأن بعد ذلك، قرأت له ذات مرة غضبه من صديق له، وفي اليوم التالي وجدته يشاكس ذلك الصديق ويتحاور معه، وحين سألته عن ذلك، قال لي إنه لا يحمل ضغينة لأحد، وإن قلبه خالي من الكره، إلا لمن يزرع الكره.
وأعترف هنا .. رغم سني الأكبر من فراس، إلا أنني تعلمت منه الكثير ، أولها الاخلاص للهدف الذي نسعى إليه ، وتاليها تطهير قلوبنا من الضغينة والكره لكائن من كان .. واشياء أخرى لا مجال لتعدادها.
في الليالي التالية، صار مقهى الفن مقصدا لي .. ارتاده وحيدا أو بانتظار فراس ، كنت حين أطلب قهوتي ، أقوم لأحملها بنفسي ، وأجلس في الطاولة أراقب المارة الذي يعبرون الشارع محملين بحكاياتهم وهمومهم الحياتية..
في احدى الليالي كان المطر يسكب في الخارج ، ولم يثنني ذلك عن أرتياد المقهى ، حملت نفسي وجلست في الطاولة التي أحب ، وكتبت لفراس كي يحضر .. لكنه تأخر ، اخبرني تاليا إنه نام نوم أهل الكهف !.
أسترجعت في تلك اللحظة وأنا انظر للمطر والمقهى الذي بدأ مهجورا إلا من الفتاة العاملة في المقهى ، وشاب آخر اعتقد إنه على صلة بها من حديثهما معا ، قصيدة (ذاكرة المقهى) للشاعر البحريني قاسم حداد:
مقهاكَ في انتظارك
يلقاك بمقاعده الوالهة
قادمة من الغابة، 
خشبٌ طازجٌ في انتظار تعبك الغليظ
يُمَسِّدُ لك وركيك وكتفيك بالعصيِّ الطريّـةِ
ويشحذ كاحليك بالبوص الليّن،
يحضنك فتنسى،
مقهاكَ، وحيدٌ مثلك
وحيدٌ بدونك
منسيٌ في وحشة الرصيف

محتشدٌ بأحلام الانتظار والفقد
جراحُ قلبِه مندلعة في لامبالاةِ العابرين
يُحدِّقُ في خطواتهم
منتظراً يداً تحطُ على ذراعه المتروكة
مقهاكَ
ينتظرك
مثل غابةٍ مكنوزةٍ بطيور الوحشة.

كانت جلسة المقهى تلك باعثة على تفتح أزاهير الكتابة لدي.. شعرت أنني اثمر كلمات وأسابق نفسي لكتابتها على شاشة هاتفي، كانت الأفكار الجميلة تنساب من كل أفق، وأنا حائر من أي يمّ أرتشف!.
ومضيت كما عادتي اتسكع عائدا إلى الفندق، وهذه المرة كان المطر الذي بدأت حدته تقل، قد اضفى جمالية بديعة، شعرت به يغسل قلبي من تعبه وهمومه، ويؤنسه من وحدته.. ولم أشعر بطول الطريق وامتداده وحتى سكونه، فقد كان قلبي خفيفا يكاد يطير في عوالمه.

في لقائي الأخير مع فراس ، في المقهى التقطت صورة تذكارية لنا ، ثم خرجنا لنتوادع .. كان وداع سريعا ، قلت له أنني لا أحب هذه اللحظات ، ولا أريد لكلمات الوداع أن تخرج من فمي، قال إنه سيأتي إلى عُمان في بداية العام الميلادي الجديد في أجازة قصيرة ، وتمنيت لحظتها أن يتحقق اللقاء ، لكنني قلت له : عليك أن تجيب على هاتفك حين اتصالي بك يومها .. ضحكنا قليلا .. قبل أن نفترق ويمضي كل منا إلى  سبيله .
واصلت المشي في طريقي دون أن التفت للمقهى الذي صار وحيدا .. وآخاله يئن لفراقنا .. وكأني أسمع نشيج الطاولة التي جلسنا عليها ... واستمعت لذكرياتنا .. ولحب الوطن المسكون في اعماقنا .. وكأن الحنين صب عليها فضجت به لحظة الفراق ..

في الطريق وصلتني تغريدة من فراس تقول:
سنلتقي يا صديقي سنلتقي و لو على أرض لا تتسع لعصفور واحد .

مسقط ـ في 17 نوفمبر 2012