الاثنين، 25 مارس 2013

الضاد .. ليس هي الظاء



تتفاخر اللغة العربية بتفردها عن سائر لغات العالم، بكونها اللغة الوحيدة التي تحمل حرف (الضاد)، هذا الحرف الذي لا يكتب أو ينطق في أي لغة أخرى، ومن هنا تعرف اللغة العربية أنها لغة الضاد.

غير أن ماسأة هذه اللغة، وأكبر مصائبها أن الكثير من أبنائها، لا يفرق بين حرف الضاد، وحرف آخر هو الظاء، ولكل منهما رسمه ونطقه، فقد اصطدمت بأحد الذين يحملون شهادة عليا، وقد كتب فيما كتب (أن ضلال النخيل تحفه من كل جانب).

نظرت إلى العبارة مندهشا، وسألته، هل شعرت بضلال النخيل؟!، فأجاب موافقا، وقال إن "ضلال" النخيل تمده بالدفء، وأنه.. وهنا قاطعته لأتبين خطأ رسمه للعبارة، وليس مقصده، ربما تقصد الظلال بالظاء؟.

مثل هذا الشاب، هناك الكثير من الذين يخطئون في رسم الضاد والظاء، ولا يفرقون بين الحرفين، ولا يفطنون إلى اختلاف المعنى عند كل منهما، فإذا كانت الظلال أمرا مقبولا ومرغوبا، فإن المرء يستعيذ بالله من الضلال والضلالة، وقس على هذين المعنيين، كلمات عدة تتبدل معانيها بمجرد اختلاف حرفي الضاد والظاء.

مع هذين الحرفين، تبرز اشكالية أخرى في جيل اللغة الخالدة، الجيل الذي لم يعد يعرف كيف تكتب الهمزة في بعض الكلمات، وموقعها في الاعراب، فنراها تارة موصولة، وتارة أخرى مقطوعة، وأحايين كثيرة لا نجد لها أثرا في الكلمة.

إن مرد ذلك في رأيي يعود إلى المدرسة أولا، وإلى المنهج التعليمي وخاصة منهج اللغة العربية وطرق تدريسه، فالطالب يتخرج من المدرسة وهو بالكاد يعرف القراءة الصحيحة، وتهجئة الحروف، ويتقن الإملاء، فكم من الأخطاء الشنيعة ترتكب بحق اللغة العربية من أناس بلغوا مراتب متقدمة من العلم والمعرفة!.

إن وسائل التواصل الحديثة، والتي كان يمكن أن تكون وسيلة لإتقان الإملاء، وتعلم الكتابة الصحيحة، خالفت دورها، أو بشكل أصح لم يستفد منها الاستفادة الناجعة، فتعمقت بذلك الفجوة بين لغة الضاد ومنتسبيها، وظهرت اللامبالاة في كتابة الجمل والعبارات العربية الفصيحة، وتم التغاضي عن الكثير من الأخطاء الشنيعة التي ترتكب بحقها، وتهجينها بكلمات دخيلة، والتلاعب في حروفها، فكم من الرسائل النصية، والمداخلات في مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات، تحمل أخطاء لا تغتفر بحق لغة القرآن الكريم، ناهيك عن أخطاء قواعد النحو والصرف، وعن هذه حدث ولا حرج.

إن الطالب فيما مضى، كان يبدأ تحصيله الدراسي، في مدارس القرآن الكريم بتعلم القاعدة البغدادية، والقاعدة النورانية، وكلاهما تهدفان إلى تهجئة الحروف بمخارجها الصحيحة مع الحركة المشكولة فيها، وبذلك تتأسس مهارة القراءة لدى المتعلم بقواعد ثابتة يتمكن من خلالها من قراءة كل ما يقع بين يديه دون أي عناء وصعوبة.

من هنا كانت مخرجات التعليم، متمكنة من نفسها في التخاطب باللغة العربية الفصحى، ومدركة لمعانيها، وعارفة بتشكيل حروفها، وتهجئتها، ولا خلاف بين بعض الحروف على بعض الكلمات، فكانت الجملة تصيب معناها المقصود، وبرع من  الدارسين من استطاع تشكيل الحروف حسب موقعها في النحو، ونطقها الفصيح.

إن اللغة العربية لن يعود مجدها، إلا اذا استوعبنا وجود مشكلة، وانتبهنا إلى فداحة وجود جيل متعلم لا يفرق بين الضاد والظاء، ولذلك لا يفهم الفرق بين "الظلال" و"الضلال"، وإذا ما عرف ذلك، فيصعب عليه نطقهما نطقا صحيحا.

وأخيرا ما أحسن ما خاطبنا به شاعر النيل على لسان اللغة الخالدة:

فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني         ومنكم وإن عز الدواء أساتي
فلا تكلوني للزمان فإنني          أخاف عليكم أن تحين وفاتي
 

مسقط ـ 20 فبراير 2013م

الأربعاء، 20 مارس 2013

الذي لا يحب جمال عبدالناصر




مدخل

يمكن القول أن معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته هذا العام 2013م، كان الأنشط والأكثر غزارة في الاصدارات العمانية المتنوعة التي زخر بها، إضافة إلى الميزة الأهم التي إنفرد بها معرض هذا العام، دون عن سواه حتى من معارض الكتاب التي تقام في عواصم ومدن عربية، إذ رفع الرقيب قيوده عن وجود أي كتاب في المعرض، وألغى المنع من قاموسه، بإعتبار أن المنع لم يعد مجديا في زمن يمكن طلب أي كتاب في العالم بضغطة زر، وكما أن المنع نفسه يحقق الرواج للكتاب، ويضاعف الاقبال عليه، ولذلك إذا أردت نشر إصدار ما، فعليك بمنعه.
ولذا فإن وجود هذا الكم من الإصدارات العمانية، وهذا التنوع البديع في الأفكار، والرؤى، وجماليات العناوين والمضامين التي تطرحها هذه الاصدارات تحتاج إلى وقفة وقراءة من النقاد والمتخصصين، وفي ذلك إثراء للحركة الابداعية في السلطنة، وإنعكاس للثراء الذي شهدته عبر الاصدارات الحديثة.

احتفاء وليس نقد

لا أعتزم هنا تقديم قراءة تخصصية في رواية سليمان المعمري "الذي لا يحب جمال عبدالناصر".. وإنما هي قراءة عابرة، تصدر من قاريء غير متخصص في النقد، هو يحاول أن يقول شيئا، ليعبر عن اعجابه بهذا الاصدار أو ذاك، ويحفز الأخرين من النقاد والمتخصصين على الإدلاء بدلوهم، بما يسهم في تنشيط الساحة الثقافية المحلية.
هذه القراءة البسيطة تهدف للإحتفاء بالقاص والروائي "تاليا" سليمان المعمري، وإنتاجه الروائي الاول المتمثل في هذه المجموعة، والتي تقدم وجه إبداعيا جديدا لسليمان، الذي عرفه القاريء كقاص في ثلاث مجموعة قصصية صدرت له، وهي "ربما لأنه رجل مهزوم"، و"الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة"، و"عبدالفتاح المنغلق لا يحب التفاصيل".. ليعيد أكتشاف موهبة إبداعية أخرى، أجاد المعمري فيها، واستطاع أن يآسر قرءاه حتى السطر الأخير من الرواية.
الرواية تسير في إطار زمني، ومكاني معروفان، وتتقاطع أحداثها المتخيلة مع أحداث واقعية، وتتشابك الشخصيات الوارادة في الرواية، والمستواحاة "بعضها" من الواقع، مع شخصيات الرواية الرمزية ولكن الكاتب ينأى بأحداثه وشخصياته عن الواقع، بالإشارة إلى أنهما من نسج الخيال.. وإذا ما تشابهت مع شخصيات أو أحداث حقيقية في الواقع فذلك لا يعدو كونه مصادفة قدرية محضة..
الرواية تبدأ بفنتازيا طلب جمال عبدالناصر العودة إلى الحياة، ومعايشة الثورة التي قامت في مصر، لكن حارس البرزخ، لا يجد له وسيلة قانونية تسمح له بهذه العودة، إلا بإنتزاع جزء من كراهية شخص له على قيد الحياة، هذه الكراهية لو وضعت وحدها في كفة ميزان ووضع بغض جميع الناس لعبدالناصر في الكفة الأخرى لرجحت كفته، وويخبره أنم هذا الشخص مصري يقيم في عُمان، ويطلب من الرئيس الراحل أن يحاول أن يسل ولو 1% من الحقد الذي يحمله في قلبه عليه، حتى يحصل على مكافأة العودة إلى الحياة وإلى مصر معززا مكرما.
وهكذا ينطلق جمال عبدالناصر، في رحلته للوصول إلى الشقة رقم 18، في منطقة الحمرية، وريثما فتح بسيوني سلطان الباب، ورأى جمال عبدالناصر أمامه بشحمه ولحمه.. شهق شهقة قوية وسقط مغشيا عليه.
عند هذه الحادثة، تبدأ أحداث الرواية بالتصاعد، وتتشكل شخصياتها الرئيسية والهامشية، وتتداخل الأحداث لتنتهي في ذات النقطة الفاصلة، التي أنطلقت منها، وهي وجود بسيوني سلطان في المستشفى السلطاني في غيبوبة تامة.
يعطي الكاتب شخصياته، وجلها تعمل في جريدة عمانية اختار لها أسم "المساء" ـ عدا شخصيتين ـ، الحرية المطلقة في الاخبار والحديث عن نفسها، وعلاقتها ببسيوني سلطان، وتحكي هذه الشخصيات عن كل ما يحيط بحياتها من أحداث، والمواقف التي جمعتها ببسيوني، ويطرقوا قضايا عميقة، وشديدة الحساسية، بأسلوب السهل الممتنع، وهو الأسلوب الذي يميز كتابات سليمان المعمري القصصية.
فالمتلقي الذي يقرأ سليمان المعمري "روائيا" يجد أن الفكرة بسيطة جدا، وأن المعاني سهلة للدرجة أنها تتوالي بسلاسة ويسر، ولكنه حينما يبحر داخل النص يجد أنه من الصعب مجارة هذا الإسلوب بإتقانه، ورشاقة لغته، والمقدرة المذهلة على توليد الأفكار، والتمكن من السيطرة على مجريات الأحداث، وتطور الشخصيات.
الرواة في "الذي لا يحب جمال عبدالناصر"، شخصيات مهزومة داخليا، تعاني من شروخ حياتية، وتداعيات أحداث وقعت لها في الماضي، والكثير من هذه الانهزامية تعود إلى وجود الشخصية المحورية للرواية وهي بسيوني سلطان، ولذلك نجد أن سيجولوجية، وتكوين كل شخصية، تبدأ من نقطة وجود بسيوني سلطان في المستشفى في حالة غيبوبة، والعلاقة بينهما.
هذه النقطة، والتشابك في احداث الشخصية الراوية، مع شخصية بسيوني، تحمل عناوين الفصول التالية للحدث الرئيسي، وهو عودة جمال عبدالناصر للحياة، لمقابلة أكثر شخصية حية على وجه الأرض كرها له، حيث يوظف الكاتب تقنية تعدد الأصوات التي تتيح لكل شخصية من شخصيات الرواية سرد حكايتها بنفسها والتعبير عن ذاتها بلغتها الخاصة.
وقد وضع المعمري لكل فصل من هذه الفصول عنواناً جاذبا يشد القارئ، على نحو، الراوي العليم: زرني يا عَدُوِّي، جار النبي بسيوني سلطان: صوّتْ لمرسي يا ولد، رئيس القسم الديني: هل سيد قطب أباضي؟!، المصحح السوداني: أنته أصلاً فلول وما لكش دعوة بالثورة، رئيس القسم الثقافي: اش جاب التفاح للبصل!، رئيس التحرير: بالضبط كأنك تسحب السيفون، رئيسة القسم الاقتصادي: تاريخ أيه وجزمة أيه يا زينب!، رئيس قسم المحليات: غاندي يفطر بـ"سويويا"!، عبدالله حبيب: المشي في جنازة رجل عظيم، زينب العجمي: سموها "نكسة"، جاتهم وكسة!، بسيوني سلطان: بالعصا على مؤخرته، المصحح التونسي: البلد بش يبيعوها، عضو اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان: يخيط فمه؟!.. هل نحن في شيكاغو؟!، المترجم المصري: عُمان مذكورة في القرآن؟!، الراوي العليم: أعرفك جيدا.
أنتهج سليمان المعمري في روايته، ـ كما أشرت ـ إلى تقنية تعدد أصوات الرواية، وأعطى فضاءً واسعا لشخصياته للتحرك، بدءا من علاقتها مع بسيوني سلطان، وحتى علاقتها بصحيفة المساء، والمواقف الحياتية التي مرت بها، والتطورات الدراماتيكية التي صاحبت كل شخصية، وتماسها مع قضايا وأحداث محلية.
فرئيس القسم الديني الشيخ داود الحراصي تحدث ـ مثلا ـ عن علاقته بقضية ما سُمّي بالتنظيم السري المحظور 2005م، بإعتباره أحد الأشخاص المتهمين في التنظيم، ورئيسة القسم الاقتصادي زينب العجمي التي تحدثت عن اعتقالات ديسمبر 1987م في حق تنظيم الشيعة الشيرازية، كون والدها أحد المتهمين في التنظيم، ورئيس قسم المحليات سالم الخنصوري الذي أسهب الحديث عن اعتصام ساحة الشعب، أو ساحة مجلس الشورى، وعضو اللجنة الوطنية لحقوق الانسان التي تحدثت عن الانتقادات الموجهة إلى اللجنة، وقضية ما تسميه بـ"المخربين"، و"اصحاب الكتابات المسيئة".
ولا تغفل الرواية، أن تعرج على ثورات الربيع العربي وتأتي على الكثير من القضايا التي تعج بها الساحة المحلية، سيما المرتبطة بالاعلام، والحرية الصحفية، ونشاط الصحفيين، وتعامل الجهات الأمنية مع بعض القضايا، منطلقة في فضاءها من "ميدان التحرير"، وهو مصطلح أطلقه موظفو الجريدة على صالة التحرير لديهم، تيمناً بثورة 25 يناير المصرية التي كانوا يتابعون أحداثها من قناة الجزيرة في تلك الصالة، هو الفلك الذي تدور حوله شخصيات الرواية.
القارئ للرواية، يجد أن بعض الشخصيات، قد ظهرت ـ كما ذكرت سلفا ـ في بعض الأحيان "مهزوزة"، و"ضعيفة"، وربما يعود ذلك لسطوة شخصيات بعينها، والمساحة الممنوحة لها للحراك، وتبيان موقفها وأفكارها، يحدث ذلك مثلا بالنسبة للشخصية الرئيسية في الرواية بسيوني سلطان، الذي رغم إثارة زملائه له، واستغلال كراهيته الشديدة للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، إلا أنه يبدو متماسكا وهو يسرد حكايته مع عبدالناصر، وقصة كراهيته له، بعد تأثره وعائلته من قانون الاصلاح الزراعي الذي تم تطبيقه في مصر بعد ثورة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952م، وعلاقة الأخوان المسلمين مع عبدالناصر وانقلاب الأخير عليهم.
بسيوني هذا لا يتوانى وفي سبيل امتثاله للتعليمات الصادرة، وتكوينه الأيدلوجي، القريب من فكر الأخوان المسلمين، إلى حذف بعض العبارات من المواضيع المقدمة للنشر في جريدة "المساء"، بحجة إنها تخالف التعليمات، ومن مثال ذلك استبداله كلمة "الإصلاح" بكلمة "التطوير" و"تظاهرة" "بمسيرة" و"سيدات الاعمال" "بصاحبات الاعمال" و"الإبداع" "بالإجادة".. وغيرها، وقد أبلى بسيوني في ذلك بلاء حسنا، رغم الحماقات التي ارتكبها أثناء التصحيح.. ورفضه وحذفه للكثير من المواضيع التي يجدها حسب رؤيته الضيقة للدين، مخالفة للشريعة، ، رغم أن عمله الأساسي في الجريدة التصحيح اللغوي فقط وليس رقابة النصوص، التي لها سلطة أخرى متمثلة في إدارة التحرير، ولذلك دخلت الجريدة في مشاكل متعددة مع بعض المثقفين والأدباء، الذين هدد بعضهم بعدم التعامل مع الجريدة في حال تكرر حذف النصوص وتعديلها.
والحال ذاته مع شخصية أخرى مناكفة لبسيوني سلطان، والتي تشكل حضورا دائما في سرد الشخصيات للإحداث، ذلك هو رئيس قسم المحليات سالم الخنصوري الذي يسهب في الحديث عن نفسه، والحديث عن اعتصامات 2011م، والعلاقة بين زينب العجمي وبسيوني سلطان.
ورئيس التحرير مرهون البطاشي الذي يتحدث عن زواجه الثاني، وعلاقته بزوجته التي تعمل في اللجنة الوطنية لحقوق الانسان، ومحاولة الأخيرة اشعار زوجها بإنها على علم بخيانته.

وكذلك بالنسبة لزينب العجمي رئيسة القسم الاقتصادي، التي كانت من الشخصيات المهمة في الرواية، وطرحت الكاتب من خلالها مجموعة من المواضيع، ويحسب لها أنها الشخصية الوحيدة في الرواية التي أفسح الكاتب لها فصلين كاملين، لروي الأحداث.
لكن الرواية هنا لا تهتم بتخصص زينب العجمي ـ مثلا ـ في القسم الاقتصادي، لذلك هي تروي عن حكايتها مع زوجها الراحل خالد الخروصي، وبداية تعارفهما، ومن ثم رعايته لها ولأمها حين وجود والدها رهن الاعتقال، وبعد ذلك علاقتها ببسيوني، وسعي الأخير لطلب زواجها متعة.
ويقع الكاتب ـ من وجهة نظري ـ في اشكالية فقهية، لا أجزم إنه لم ينتبه لها، وبالتأكيد أن ثمة تبريرا لها عنده، عندما يحكي على لسان "زينب العجمي" عن زوجها خالد الخروصي "الأباضي المذهب"، وهو يقول لها (أنأ أعرف أن مذهبنا يبيح زواج المتعة.. لكن عمري ما فكرت أتزوج بهذي الطريقة يا زينب.. الزواج رباط مقدس بين شخصين، شراكة كاملة في الحياة في كل شيء.. مش مجرد "متعة" صغيرة يروح كل واحد ف طريق).
فالذي يذهب إليه أكثر علماء المذهب الاباضي أن نكاح المتعة قد نُسِخ؛ لأن النكاح إنما هو ربط مصير بمصير، وهم يرون في القرآن الكريم ما يدل على أن الزواج إنما هو إحصان، وليس هو من أجل سفح الماء فالله تبارك وتعالى يقول في الآية الخامسة من سورة المائدة: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}.
وغير ذلك نجد أن الرواية تعزز صورة التسامح المذهبي في عُمان، حيث يتزوج خالد الخروصي "الأباضي المذهب" من زينب العجمي "الشيعية المذهب".. ويصف خالد نفسه بأنه ليست متعصبا لأباضيته، وهو يرى أن الإسلام دين واحد والمذاهب ليست سوى طرائق لفهمه. أي إنها وسائل لا غايات.
ومع السلاسة في سير أحداث الرواية، واعتماد الكاتب على تقنية تعدد الأصوات، والفلاش باك في سرد الأحداث، فهي كذلك تحمل الكثير من الرسائل الهامة، التي تستوقف القاريء.
فحديث بسيوني سلطان عن "الرئيس المؤمن محمد مرسي"، وكونه "ما بيخافش غير ربنا" وأنه "حافظ القرآن كامل وبيصلي الفجر جماعة".. يقابله تعليق حسن العامري رئيس القسم الثقافي "دينه لنفسه.. مصر محتاجة رئيس، مش مطوّع".
وكذلك الحال مع تونس، إذ يصف المصحح التونسي عبدالمجيد زروقي الوضع السياسي في بلاده بعد الثورة "وسقط النظام والحمد لله وهرب بن علي، واستبشرنا خيرا بما سنجنيه بعد الثورة، ولكن البغل تبدل و"الكريطة هي هي".
ويتساءل بمرارة المواطن التونسي الذي كان يحترق ألما وشوقا وهو يتطلع للعهد الجديد فإذا به يكتشف في ساعة يأس "أن بن علي الطاغية المستبد يخاف الله أكثر منهم".
ويوصف عبدالمجيد الحالة التونسية، وهي بالكاد تتشابه مع حالات عربية أخرى، أمتدت لها ثورات الربيع العربي، "مشكلتنا مع النظام السابق كانت في حرية التعبير والإعلام فقط، ولكن كان هناك أمان نسبي"، ويرد على سالم الخنصوري بعدما امتدح حرية التعبير والإعلام الكبيرة التي ظفرتم بها بعد الثورة"، بالقول: " إنها كبيرة حقا.. كبيرة حد الفوضى".
الرواية في مجملها تقدم تقاطيع عديدة، يمكن أن يبنى عليها سردا عميقا حول الأحداث التي تتعرض لها، والجميل في كاتبها، إنه استطاع مزج الواقع بالمتخيل، والمعقول بالامعقول، ورسمت كل شخصية من شخصياتها على نمط واقعي يقترب من شخصيات معاشة بيننا، لكننا لا نود الذهاب إلى ذلك، وتصديق الرواية، واعتبار شخصياتها حقيقة، وتحميلها ما لاتحتمل.. فهي أولا وأخيرا تظل إبداعا من نسج خيال الكاتب، وله وحده الحرية المطلقة في رسم مسار الأحداث، والأخذ من الواقع ما يراه مناسبا، ويخدم فكرته التي ينطلق منها في عمله.
وحيث أنها الرواية الأولى لكاتبها القاص سليمان المعمري، أقول هنا القاص، لأن هذه التسمية والوصف هو الأقرب، وربما الأحب للمعمري، الذي حقق عدة انجازات مهمة في مجال القصة، ليس أهمها جائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة، التي نظَّمتها لجنة القصة في المجلس الأعلى للثقافة بمصر، عن مجموعته القصصية " الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة".. أقول حيث أنها الرواية الأولى، فقد ظهرت بعض الشخصيات إطالة فيها في سرد التفاصيل التي ترتبط بها، وهذا جعل الكثير من القضايا والمواضيع تتفتح أمام القاريء، دون أن يستوعب جل تفاصيلها.
لا أريد هنا أن يفهم القول، انني أطالب أن تنبش الرواية كل القضايا والمواضيع، وتسردها بتفاصيلها، ولكنني لم أكن أود أن تحمل الرواية أكثر مما تحتمل، فهي ليست كتاب تاريخ، أو توثيق لأحداث ومجريات تاريخية، كما أن مدخل الرواية، والفصل الأخير منها، بدأ مهزوزان قليلا بالمقارنة بالأحداث التالية، وهذه الصعوبة في مزج الواقع بالمتخيل، إذ يتماهى الواقع ليصبح جزءا من المتخيل، ويتلاشى المتخيل ليصبح جزءا من الواقع..
أعتقد أن سليمان المعمري وهو يكتب هذه الرواية، تصارعت أمامه الأحداث، وتداخلت فيما بينها، فصارت جزءا من شخصياته، وطوعها بحرفية، لكنني أخشى أنه حملها كل هذا الحمل الزائد.
وإذا كان الكاتب قد استطاع تكثيف عبارات وتوصيفات بعض شخصياته، للإحداث، فإنه استلزم منه الاسهاب في بعض المواقف، للوصول إلى ما يريد قوله، فالنقاشات المستفيضة حول قضايا فقهية وفكرية، لم تخدم الرواية في بعض الفصول، وكانت هذرة زائدة.
مع كل هذا، فلابد من الإشارة مجددا، إلى أن رواية "الذي لا يحب جمال عبدالناصر"، استطاعت أن تآسر الكثير من القراء، ويتهافت عليها الجمهور في معرض مسقط الدولي للكتاب، وأعترف إنني قرأت الرواية مرتين متتاليتين، وما زلت منشد إليها، وقد أقرأها للمرة الثالثة.
لقد نجح سليمان المعمري روائيا..
نجح في صياغة رواية.. تقول كل شيء.
نجح رغم الملاحظات البسيطة التي سيقولها هذا القارئ البسيط، أو ذاك الناقد لا المتخصص.
لكنها تبقى ملاحظات، لا تنتقص من قيمة العمل، ولا تقلل من جودته.
ومع هذا النجاح، ومطالبة "البعض" لسليمان بكتابة جزء ثاني من الرواية، أتمنى منه أن لا ينساق إلى كتابة جزء ثاني منها، بل يكتب رواية أخرى، أثق أنه سيبدع كما أبدع في نصوصه السابقة وروايته هذه، فسليمان المعمري مشروع أديب نضج.. وهذا أوان قطاف ثمره/ إبداعه.
أخيرا.. إذا كنت أتمنى ان يقرأ كل شخص هذه الرواية، سيما المشتغلين بالصحافة والاعلام، فإنني لا أتمنى أن يبحث أي منهم ـ وأقصد هنا المشتغلين بالصحافة ـ عن نفسه داخل الرواية، ولا يحملها ما لا تحتمل، فهي تظل بشخصياتها وأحداثها من نسج خيال الكاتب.. ومرة أخرى اسوق تنويه كاتبها.. إذا ما تشابهت مع شخصيات وأحداث حقيقية في الواقع، فذلك لا يعدو كونه مصادفة قدرية محضة.

مسقط ـ الأربعاء 20 مارس 2013

الاثنين، 18 مارس 2013

الشمس تشرق من المغرب ـ الحلقة الرابعة ـ




حين سألنا أول مرة، رجاء البلوشية عن سبب إختيار المغرب، لتحتضن جولتنا الفكرية والثقافية، وما إذا كانت هذه البلاد تسجل سبقا وتميزا في مجال الثقافة والأدب، لم تقل أكثر من أننا سنكتشف ذلك بانفسنا وسنعرف إجابة السؤال حينئذ.
كنت واحد من الذين سألوا يومها عن موقع المملكة المغربية في الخارطة الثقافية، وما إذا كانت بيئة فكرية خصبة، لم أكن أعرف من مفكريها ومثقفيها غير بضعة أسماء، حققوا انتشارا عالميا، بدءا من المفكر الراحل محمد عابد الجابري وحتى محمد شكري والطاهر بن جلون وبنسالم حميش ومحمد بنيس.. وغير ذلك يشوبني القصور في التعرف عليهم، لجهلي، وعدم إطلاعي الكافي على جل الكتاب والمفكرين والرواة والشعراء والنقاد المغاربة.
وكنت آخال أن الشعب المغربي، منغمس كليا في الفرنكفونية، حاله في ذلك حال بلدان المغرب العربي، والمستعمرات الفرنسية في افريقيا وآسيا، حيث عمت سياسة الفرنسة كل المظاهر الوطنية: الإدارة الحكومية، من التعليم ووسائل الإعلام، إلى الشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية، وحتى أسماء وإعلانات الشوارع، وبطاقات الزيارات والحفلات، وبدت اللغة الفرنسية تتحول تلقائياً إلى لغة التخاطب الرسمية الأولى في العديد من الدول، وهكذا ظننت أن المغرب ليس عن ذلك ببعيد.
لكنني حين وصلت، وتعرفت على مرافقينا بدر الدين وهيثم، وسائق الحافلة سي محمد، وجلست مع موظف الفندق الذي نزلنا فيه أول مرة، أدركت أن اللغة العربية حاضرة، تحاول أن تعمر كيانها، في بلد شكل منطقة عبور لثقافات عدة تداخلت مع الثقافات المحلية، وتعايشت على أرضه لغات عدة، كل منها عملت على ضمان موقعها ودورها ومكانتها، واحتكار مناطقها الجغرافية.
لم يتحدث بدر أو هيثم، وحتى سي محمد والكثير ممن إلتقينا بهم، غير بلغة عربية سليمة، جعلتني أشعر بالارتياح، وأطمئن إلى ثقافة وحضارة هذا البلد العريق.. رغم أنني شاهدت وتعرفت على الكثير من المغاربة ممن يتحدثون الفرنسية أكثر من العربية الفصحى، ويخلطون الأمازيغية بمفردات عربية..
وغير ذلك فالشعب المغربي، مثقف وعلى درجة من الوعي والمعرفة، وإن بدأ التشاؤم على أفردا منه، على الوضع الثقافي للشباب، كون السمة الغالبة منهم لا تقرأ، ولا تطالع الكتب، ولا تحضر الندوات الفكرية والثقافية.
أقول ذلك رغم النظرة السودواية التي نقلها لنا وزير الثقافة المغربي محمد الأمين الصبيحي في لقائنا به، والأرقام "المفجعة التي أشار إليها، إذ يصل عدد الناشرون في المغرب، ـ حسب حديث الوزير ـ إلى 40 ناشرا، والنتاج السنوي للكتب يقترب من الألفين كتاب، وهناك سبع مجلات ثقافية نوعية لها حضور ووزن وطني، ناهيك عن المكتبات التجارية المنتشرة بطول البلاد وعرضها، وباعة الكتب على أرصفة الشوارع والميادين.
هذه الأرقام وإن بدت لنا جيدة، إلا أن الوزير كان حزينا بشأنها، وكان يقرأها بأسى شديد، فعلى مرمى حجر منه، تسكن البلاد التي يقارن الانتاج الفكري للدول العربية قاطبة بها، وماذا تساوي الألفين كتاب إزاء عشرة ملايين إصدار في الأداب والعلوم والفنون والترجمة، تطبعها اسبانيا سنويا.
قلت لرجاء البلوشي، وأنا أطالع الأرقام التي قدمها لنا وزير الثقافة المغربي، ماذا سنقول عن حالنا نحن في السلطنة؟!.
كان هذا الحديث قبل معرفة كم الاصدارات العمانية الحديثة الغزيرة التي ظهرت في معرض مسقط الدولي للكتاب الأخير، والتي تقترب من المئتين اصدار.. ولن أتحدث عن باقي الأرقام بالنسبة لعدد المكتبات ودور النشر في السلطنة، وكيف حال الكتاب العماني بعد معرض مسقط للكتاب.

***

في قلب المدينة.. ومن على شرفة تطل على شارع محمد الخامس، ومبنى البرلمان، كنا نجلس على غير ميعاد مع نجيب خداري رئيس بيت الشعر المغربي، ومراد القادري والروائي حسن نجمي، كانت الشمس قد أذنت بالغروب، وحركة المارة في الشارع بدأت تخفت.. كان الطقس معتدلا، لذلك أخذنا موقعنا على شرفة مقر البيت، ورحنا ننسج قصيدة شعر جميلة، وننصت إلى عذب الكلام، ونغرف من معين الفكر والأدب.
تحدث مضيفنا عن بيت الشعر في المغرب الذي تم إشهاره العام 1996م، حيث أصدر مجموعة من الأدباء والشعراء بيانا تأسيسيا للبيت، من بينهم الشاعر محمد بنيس وحسن نجمي وصلاح بوسريف وغيرهم من الشعراء المتحمسين، والداعين إلى إيجاد خصوصية للشعر العربي، والنهوض به، ومعرجين بحديثهم عن ارتباط البيت ببيوتات الشعر في مختلف العواصم الثقافية، ونشاطاته، وتكريمه لشخصيات عربية لها إسهامها الشعري، وقالوا عن الأعضاء الذين ينتمون لبيت الشعر والبالغ عددهم 65 عضوا، هؤلاء لا يمكن استبدالهم إلا في حالة استقالة أو موت أحدهم.
كنت وفيصل العلوي ومحمد الحضرمي أكثر الموجودين تفاعلا، مع حديث الشعر والأدب، بحكم ميولنا الثقافية، فيما كانت سعاد العريمي تنظر إلي وهي تستعجل إنهاء اللقاء، وكذلك فعلت ميساء الهنائي التي بدت في ذلك المساء متعبة، ومجهدة، حد إنها تركتنا وانصرفت للإستراحة في مكان آخر.
كان محمد الحضرمي يوثق اللقاء كتابة وتصويرا، وكان موقعه قريب من خداري والقادري، ولذلك كان يطلب من فائزة الكلباني تصويره، من زوايا عدة.
كنت في قرارة نفسي أضحك، وأنا أشاهد فائزة تقوم من مكانها كل مرة، لتلتقط صورا جديدة للحضور عامة ومحمد الحضرمي خاصة، وهو يشير إليها إلى زاوية التصوير الأفضل، ثم ينكب على الورقة ليكتب، حتى تظهر الصورة تلقائية.
كان تملل سعاد يتصاعد، وهي ترانا نسأل ونستفسر، ونقرأ الشعر، ولم تهدأ أنفاسها الغاضبة منا، إلا حين جيء بالشاي المغربي، وبعض الحلوى المغربية، وأقترح الحضور أن نأخذها في القاعة الداخلية.. حيث الكراسي الوثيرة، هناك شعر البعض بالارتياح، وكان الوقت قد أزف على نهاية اللقاء.
كان الليل قد أسدل ستاره، ونحن نمضي في شارع محمد الخامس، ونعبر زنقة سويقة، وننتقل بينهما كمن يعبر صفحة تاريخ، ليصل إلى صفحة أخرى حديثة، تتبدل فيها وجه المدينة، لتكون بحلة زاهية بهية، تتناسق في العمران الحديثة، والشوارع الفسيحة، واضواء الليل تكتب أغنية حزينة.. علاش بغيتك قوليلي علاش مانسيتك.. صافي سيري سيري كويتي ليا قلبي عاد مشيتي.
كنت أطل على صورة المدينة التي تتشكل تلك الليلة، وأناظر حيوات تكتبها المسارح ودور السينما، وجلسات المقاهي، وأسترق لحديث الصحاب عن المكتبة الوطنية، وبيت الشعر، وعن الثقافة والفكر، وأشياء أخرى.

***

كانت السماء قد أنهت للتو ولادة المطر، والغيوم بدأت تتكشف، لتبزغ أشعة الشمس الدافئة، والأجساد التي توزعت قريبا من محطة أكدال، كانت تقترب من بعضها حينا، وتبتعد حينا آخر، في الطريق كانت ثمة حافلة ألفتها دروب الرباط، تشق طريقها من باب الرواح، وتسلك شارع ابن خلدون، لتتوقف عند معلم ثقافي مهم، من معالم المغرب قاطبة.
لم يكن هذا المكان ضمن برنامج الزيارة المقرر، لكنه تصدر جدول الزيارات بعد أن طلب الدكتور خالد العوالمة منا إقتراح أماكن زيارة غير موجودة في الجدول، قال كل منا ما يهمه من الأمكنة، والمراكز التخصصية.
اقترح بدر لنا أن نعرج على المكتبة الوطنية، بإعتبار أهميتها الثقافية والفكرية، وعلى عجل رتب لنا الزيارة، وهكذا كنا أمام مبنى ذو هيئة هندسية حسنة، وصورة بديعة، تأملتها بدهشة، وفرح، وشيء من الغبطة لهذه البلاد التي أوجدت هذا الكيان الثقافي الكبير.
وقفنا بدءا أمام لوحة تشكيلية، تواجه باب المكتبة الرئيسي، بدت اللوحة على شكل شلال ينحدر من الأعالي، شلال حروف من لغات مختلفة، كناية عن أن المكتبة تضم ذخائر ونفائس الكتب من لغات شتى، بينها العربية والأمازيغية والفرنسية وغيرها.
أدهشتني المكتبة بقاعاتها.. وأقسامها، واتساعها، أدهشتني بكل ركن فيها، والأجمل من كل ذلك، أؤلئك الباحثين عن المعرفة الذين ملؤا قاعات القراءة، وبالكاد تجد مقعدا شاغرا فيها، كان الصمت سيد المكان، وكان مضيفنا هناك المختار العلوي، وبالمناسبة كانت سعادته كبيرة وهو يتعرف على إبن عمه بالنسب العلوي.. فيصل.
كان المختار العلوي يشرح لنا عن أقسام المكتبة، ويجوب بنا القاعات والأركان، بصوت خافت لا نكاد نسمعه، حتى لا يزعج من في القاعة.
قال المختار فيما قال: إن المكتبة الوطنية كانت في الأصل خزانة عامة للكتب والوثائق المغربية، وترجع فكرة إنشائها إلى سنة 1912، وافتتاحها فعليا عام 1920م، ومن ثم تم تهيئتها من جديد بنمط هندسي متطور يحمل اسم "المكتبة الوطنية للمملكة المغربية"، وافتتحت العام 2008م.
كنا ونحن نجوب جنبات المكتبة، نلمس الذوق الهندسي الرفيع في تصميمها، حيث الأبواب والأسقف الزجاجية المتوزعة في الردهات تسمح بتوزع الضوء والظلال، وفق معادلة مدروسة لحركة الشمس على مدار العام.
في فضاء آخر كنا داخل قسم المخطوطات، وهو من أغلى وأندر الأقسام بالمكتبة، المطبوعات تحفظ هنا بعد أن ترمم وتعالج كيميائيا، اطلعت على أحد المخطوطات النادرة كتبت بخط سرياني قديم، عثر عليها في إحدى المقابر الأثرية بجنوب المغرب عام 2001م، تم ترميمها وعرضت هنا للقراءة، وهي عبارة عن وثيقة توراتية طولها 28 مترا.
ومن هذا الفضاء، إلى فضاء آخر.. لم نكل من المشي بين أروقة المكتبة، والمختار العلوي يسهب في الشرح، ويجيب على التساؤلات، وأكثرها كانت من محمد الحضرمي، الذي أقترب أكثر ليسجل كل ما يقوله المختار، ولأن فائزة كانت الأقرب للرجل وهو يتحدث، فقد أعطاها الحضرمي التسجيل، ونسيته بعدئذ مفتوحا.. ليسجل كل كلماتنا الساخرة والهامزة واللامزة.
كان تعب الطواف قد أخذ مبلغه من بعضنا، سيما ميساء وسعاد، فيما كانت ناجية البطاشي وفائزة وبالتأكيد رجاء الأكثر نشاطا، ولذلك اكتفينا بما تيسر لنا من مشاهدات، كانت ختامها المكتبة الموسيقية التي توفر سماع روائع الموسيقى العربية والغربية، وبعدها كنا نملأ طاولات المقهي الفسيح الذي يطل على الفضاء الخارجي الرحب، أخذنا فيه استراحة، قبل إداء الصلاة في المصلى الموجود داخل المكتبة.
كان الرفاق جميعا يتأملون المكان بدهشة، وهم يتهامسون عن حلم أن يكون لدينا مكتبة وطنية في عُمان.. كنت من على طاولة صغير جمعتني بفيصل العلوي وخلفان الرحبي أتمعن في لوحة شلال الحروف، التي بدت واضحة من مكاني في المقهى، وأحلم كما حلم الرفاق بمكتبة وطنية في عُمان.

***

إن جئت المغرب زائرا، أو عابرا.. أو حتى في مهمة دراسة أو عمل، فلا تنسى المرور في شارع محمد الخامس، هناك ستكتشف المغرب بكل أطيافه ومكوناته عن قرب، فهنا البرلمان، حيث المناقشات المستفيضة، المتفقة والمختلفة مع اداء الحكومة، وعلى مقربة منه، يمكنك أن تشاهد بين الفينة والأخرى مجموعة من المتظاهرين، والمحتجين على اداء الحكومة، أو المطالبين بالعمل، أو تحسين ظروفهم المعيشية، وحتى المحتجين على سياسات دول، والمتضامنين مع قضايا تثار هنا أو هناك.
كنت والصديق فيصل العلوي، قد قطعنا تذكرة قطار للوصول إلى محطة الرباط المدينة، من محطة أكدال، على سبيل تجربة ركوب القطار، والتماهي في عوالمه، حين خرجنا من المحطة، اكتشفنا أننا نعرف هذا المكان، وقد مررنا عليه كثيرا، فهناك جلسنا لنتحدث عن بيت الشعر، وهنا المكتبات وباعة الكتب على الرصيف، وهنا مطاعم الوجبات السريعة، والمقاهي العتيقة.
وهنا أيضا المصارف ومحلات استبدال العملة، وحتى باعة السوق السوداء الذين يأتونك حين تهم بإستبدال عملة في مصرف ما، ليعرضوا عليك قيمة افضل للاستبدال.
سألت عامل المصرف عن سبب أفضيلة الاستبدال عند هؤلاء الباعة، وما إذا كانت العملة لديهم مزيفة، فاجاب بالنفي، وأنها سليمة، لكن تعامله هؤلاء الصيرفة لا يخلو من الخداع والغش في المبلغ الذي يستبدلونه ، كما أنهم لا يدفعون إيجار ورسوم لمحلات تجارية ومتطلباتها من تجهيزات وأعمال.
كنا نمشي أمام البرلمان، حينا لمحنا مجموعات شبابية متوزعة في مواقع مختلفة، كل مجموعة بهيئة ولباس محدد، وهي ترفع مطالبها، وبغيتها، كان أكبرها الواقفة قبالة مدخل البرلمان، وافرادها ينشدون أغنية عرفتها بعدئذ إنها لفرقة ناس الغيوان، التي تزين كلماتها الكثير من التظاهرات الاحتجاجية، تتردد بإيقاع جميل، كانت كلمات الأغاني معبرة عن حال الشباب المغربي، وهموم الناس في أزمتهم الاقتصادية، واحتجاجتهم السياسية، كانت أصواتهم تتوحد: الدنيا غادية يا اهلي بحال المسكين.. أرضي عاطية كنوزها مفتوحين.. لوحوش الضارية انيابها ممدودين.. شمسي ضاوية لبيوت مغموقين.. بحوري عامرة وحنا جيعانين.
كانت المظاهرات والوقفات الاعتصامية منظمة، بحيث لا يسمح القائمون عليها والمنظمون لها بدخول أي شخص بينهم، لم يتم تسجيله مسبقا، ولا يرتدي السترة المخصصة للاعتصام والاحتجاج.
ولا تحتاج المظاهرات هنا إلى أسباب قوية لتقوم وتنشأ، فهناك العشرات من القضايا والأحداث، التي يمكن أن تقوم لأجلها مظاهرة وتنادي حتى بسقوط رئيس الحكومة، ولن تتدخل قوات الأمن طالما أن المظاهرة لم تخرج عن اطارها، ولم تخل بالأمن، وتعرقل حركة المرور في المنطقة.
قلت لفيصل العلوي: هؤلاء الشباب، مبدعون حتى في مظاهراتهم..
كنت أقول ذلك، وأنا أرى حركة المرور تمضي انسيابية، والمارة يمضون لأعمالهم، فيما لافتات التنديد والشجب ترفرف على المكان.. وهي تشير إلى أن الاعتصام سيكون مفتوحا حتى تحقيق المطالب.

***

كانت أيامنا تمضي في المغرب، وكل مدينة نحط فيها الرحال تأسرنا بروحها الخلاقة، لم نشعر بالغربة فيها، أو البعد عن الأهل والديار، أحببت الرباط كما أحببت طنجة وفأس ومراكش ومدن أخرى مررنا بها، وطفنا معالمها..
وقفت ذات مرة على ربوة عند مصب نهر أبي رقراق، أرسلت نظري للمكان، كنت أعاين المدينة العتيقة، وأتأمل الأسوار الحصينة المحيطة، وأنظر لمدينة سلا التاريخية وهي تحتضن الأطلسي، وتمد كفيها لخيوط الشمس الذهبية، تستقي منها النور والضياء، وتمزج بإطلالتها زرقة السماء وزرقة المحيط.
كنت واقفا في قصبة الأوداية، وعبرها كنت ألج بوابة التاريخ، وأرى جيوش الفاتحين، وأعاين سفن الغزاة، وأشهد الانتصارات والفتوحات.. هنا المكان ينبئك بما تنبئك به صفحات التاريخ، ومدوناته، وكأني أنظر لملك دولة المرابطين يوسف بن تاشفين، وهو يقود جيشه متحدا مع جيش المعتمد بن عباد، ضد قوات الملك القشتالي ألفونسو السادس ويعيد كتابة تاريخ الأندلس، وينقذها من ضياع محقق في معركة الزلاقة، بعدما أوقف زحف النصارى المتنامي في أراضي ملوك الطوائف الإسلامية..
كانت قلعة الأوداية تطل بمدافعها القديمة، وتزدان ببابها الجميل المغطى بالنقوش والزخارف البديعة، وحولها بدت الحديقة الأندلسية جنة مليئة بأشجار الفواكه وأكاليل الغار الوردي وبشلالات من النباتات.
كانت الصورة برمتها، تبعث في نفسي السمو والارتياح، وأنا أنظر لكل هذه المفردات التي تجمعت في هذا المكان، بين نهر ومحيط وقلعة وسوق شعبي.. وصورة مدينة تضج بالجمال الروحي، والجمال المكاني.. لم أفق منه إلا حين سمعت الدكتور خالد العوالمة، وهو يشير إلي وإلى الصديق فيصل العلوي للإكتشاف عوالم البيوت المتداخلة القريبة من الأوداية.. وكنا بعدها نذرع زنقة زيرارة، لنرتاح قرب متجر صغير، به ركن للعصير، هناك طلب العوالمة لنا كأسا من عصير البرتقال الطازج.. قلت للشاب المغربي: زدني كأسا وكأسا.. فإن نفسي وروحي أزدادت عطشا وولها في هذا المكان.

الأربعاء 13 مارس 2013م
للرحلة بقية