الأحد، 11 مايو 2014

حكايات حارتنا ( 2 )



لا تقل إنها أَضْغاثُ أساطير

للحكاية في حارتنا رائحة الكيذا.. هي عبق المكان يفوح شذا يلثم الأنفاس العابرة، ويأخذهم في مداراته، يحفر في الذاكرة صور الشخوص وصيرورتهم، حتى يخيل لك وأنت تمضي في دروب الحارة، أنهم معك.. قريبون منك، يسمعونك وتسمعهم، يحكون لك حكاياتهم، ويرون أخبارهم.


حين تمر ـ مثلا ـ على مدرسة القرآن، ستلمح المعلمة جوخة جالسة في مكانها، تحفظ سور الكراس للصغار، ويتناهى إلى مسامعك أصوات قراءاتهم، وحين تمضي قريبا من مسجد الحارة، سترى جماعات من الناس تؤم المسجد، وتتآلف بعضها البعض بعد الصلاة، ينشدون عن أحوالهم ويسألون عن أخبارهم.

حارتنا تصنع الحكاية..

في كل ركن ثمة حكاية.. حكاية الشخوص الذين يعبرون طرقات الحارة، يجوبون المنازل، وينثرون رائحتهم على الشواهد والمعالم، من مدرسة تعليم القرآن حتى المسجد، ومنازل الحارة، والبستان، كل شيء هنا يقول الحكاية، وينبئ تفاصيلها.

ولا تنتهي الحكاية.. إنها دوامة مستمرة من الأحداث، كلما أذنت فصولها بالانتهاء، تفتقت عن أحداث أخرى، وتكشفت عن أمور جديدة، ستسمع منا كلاما كثيرا، لن ينتهي عند حد معين.. فالشخوص تتناسل، والأمكنة تتغير، والأحداث تتطور، كل شيء يتغير ويتجدد في حارتنا، وللحكاية روايات كثيرة، كلها تؤدي إلى ذات التفاصيل.

اقترب من هنا..

انظر إلى هذه النافذة، هل ترى وجه الكرامة المنبعث من
داخلها، هل تشعر براحة تسري في أوصالك، هنا تسكن سلاموه، لا نعرف ما الذي جاء بها لتستوطن هذه الغرفة من هذه  الدار.. دارنا التي حدثتك عنها.

إنها طمأنينة تجدها سلاموه في دارنا، وترسلها للصالحين الذين يذكرونها في السراء والضراء، الذين يأتون إليها محملين بهدايا الطيب والعطور، يحتفون بها، لتحتفي بهم، وتهل بركاتها عليهم.

إن لسلاموه مقاما واحدا، تعرفها كلما اشتد مصابك، وتزايد بلاؤك، قف عند النافذة، وامسح بما تجود به نفسك عليها، واطلب الصفح والغفران، ثم عد مطمئن البال.

غير أن لواحدة أخرى ـ لم أخبرك بها ـ، مقامات عدة.

لم أقل لك عن الحبشية.. ولم أخبرك حكاياتها مع حارتنا، كما لم أخبرك حكاية الغريب الذي استوطن حارتنا، وعاش بيننا، وأحواله معنا.. وحكايات كثيرة أود أن أسردها على مسامعك.. أنت القادم إلينا مضرج بالدهشة، محفوف بالانبهار، تطلب المزيد والمزيد عن حارتنا.

حارتنا.. حارة سلاموه والحبشية، والتناقضات الغريبة والعجيبة، المتناثرة شرقا وغربا.. لا تكاد تخرج من دهاليز حكاية، حتى تتلبسك حكاية أخرى..

أراك تقف قريبا من نافذة سلاموه، تسألني عن الحبشية.. انتظر ثمة حكايات أكبر منها، عليك أن تعرفها أولا.

***

في مواسم المطر.. في فصول الخصب والنماء، تفرح حارتنا، نصعد إلى أسطح المنازل لنبتل بالماء، ونتدثر بفيض السماء، نردد الأناشيد ونصدح بالغناء، ونطلب المزيد.

من البعيد نرى نخيل بستان الحارة وأشجاره، وهي تتعانق مع قطرات المطر، نرى الفرحة في الأشجار كما هي الفرحة في قلوبنا، فترتفع أصواتنا بالتهليل والتكبير، كانت فرحة الأمهات كبيرة، وهي تراقب أفئدة الصغار تلهج بالشكر والدعاء إلى المولى أن يسقي البلاد، ويغيث العباد، وتعود أرض البستان مخضرة، كما نحبها ونتمناها.

وحدهم الرضع من يحرمون عناق المطر، وانسكاب الماء على أجسادهم، تقول أمهاتنا إن المطر حين يسقط على الصغار الرضع، يلوي ألسنتهم، وقد يصبحون بكما، ولذلك تهرع الأمهات إلى ضمهم ودسهم ساعة الغيث.

لا تقل لي إنها أضغاث أساطير.. لدينا حكايات عن صغار فقدوا النطق لأن المطر لامس ألسنتهم، نعرفهم كثيرا من روايات تصلنا من الحارات القريبة.

إنه إيمان مترسخ في ذواتنا، لن تغيره أقوال من يختلف معنا في ذلك.. يقول والدي إن الحكاية ذاتها تتناسل بين الحارات، والإيمان بالمعتقدات والغيبيات ذاته، نحن لا نود الخوض كثيرا في ذلك، يكفينا أن نعرف المعنى، فنتبعه، ونعي القول فنطبقه.

ولن أحكي لك عن "نكسة الدنيا" ليلة القدر، فستعدها هي الأخرى من تخاريف القول.. ولا الدابة التي تأكل القمر ليلة خسوفه.. فأنت ما زلت تنتظر مني حكاية الحبشية التي ظهرت أكثر من مرة لنساء حارتنا.. دون أن تصدنا عما نحن فيه..

***

الحبشية.. الاسم الذي يتردد على مسامعنا بشيء من الخوف والوجل، خوف لا يشبه إلا أصوات الليل التي تنبعث من الدروب والبيوت المهجورة، دون أن نعرف مصدر الصوت، وفحواه.

تتناقل حكاياتها بهمس خافت، لتقول إنها ظهرت ذات مرة
لامرأة وهي تغتسل في مجازة الفلج، وظهرت لأخرى وهي تسكب الماء على جسدها في الشريعة، وقامت بترعيب أخرى وهي ماضية في دربها.. وهكذا، تتوارد حكاية الحبشية دون أن نعي مآربها، ولماذا تظهر هنا ولا تظهر هناك، وتخرج لهذه ولا تخرج لأخرى.

إنها إرادتها وحدها، لا اختيار لنا فيها، كل ما تقوم به النساء اللواتي تظهر لهن، الهرب، والتدثر في منازلهن، حتى يذهب الوجل، وتسكن القلوب، وتطمئن الأفئدة.

ولأن الحبشية ليست من حارتنا.. ولا نعرف لها أصلا ولا فصلا، فإننا لا نتقرب منها، ولا نقدم لها القرابين، إلا فيما ندر، تذهب إحداهن إلى مجازة الفلج، فتضع قليلا من العطور والعود على ناصية، أو تشعل البخور قريبا منها، وهي ترد الماء وتغتسل، درءا لمواجهتها وغضبها.

الحبشية لا تظهر كثيرا.. لم يشاهدها أحد، إنهم يشعرون بها لا أكثر، وستكذب نسوة الحارة لو قالت لك غير هذا الحديث، يقول رجالنا تعليقا على أحاديث النساء حول حكايتهن مع الحبشية، إنهن يذهبن إلى مكانها غير طاهرات، فتشمئز منهن، وتطردهن من ذلك المكان.

الحبشية غير سلاموه.. وسلاموه غير الحبشية، وما بينهن تتوه الحكايات.. تتناقل بين الألسنة، فتتوالد بكيفيات ومرويات مختلفة.. عليك أن تعرف حارتنا أكثر، لتعرف أن لدينا ما هو أهم من سلاموه والحبشية، لكنهن النسوة لا يجدن ما يقطعن به أحاديث الصباح والمساء.

***

حارتنا حكاية واسعة.. شاسعة التفاصيل، حدثتك عنها الكثير، ونسيت الأكثر، في زحمة الحديث نسيت أن أحكي لك عن سعدون المجنون، لم يخطر ببالي أن أمره يهمك، أنت القادم لأشياء بعينها في حارتنا.. وسعدون ليس من حارتنا، إنه من حارة أخرى، لكن دروبنا تعرفه، وشخوصنا تلتقي به بين الحين والآخر.

سعدون المجنون لا يؤذي أحدا، إنه مسكين، هكذا نقول كلما صادفناه في طريقنا، والتقينا به، يذهب بعضنا ليصافحه، والوجل يتصاعد في فؤاده، ثم يستكين لحظة أن يتركه سعدون ولا يؤذيه.

يحمل سعدون كوبا معدنيا، يضع عليه بضع حصيات، يقرقحها، فنعرف مقدمه ومروره قريبا منا، يضحك سعدون كثيرا، نراه يجري في بعض الأحيان، ويمشي الهوينا في أحيان أخرى، في لحظات أيضا نراه يصفق بجناحيه ويطير كما العصافير، يردد كلمات على ايقاعات لا يعرفها سواه.

حين سألت والدي عن سعدون، قال إنه مسكين، وحين شاهدنا المعلم جمعة ونحن نقترب منه، نهرنا وقال لنا: ما لكم وللمسكين..

في المساءات.. وقبيل الغروب يظهر سعدون، يجوب الحارات، من حارة إلى أخرى، يقرقح حصياته، وهو يضحك، دون أن نعرف سبب ضحكه.

قالت نسوة في حارتنا: إن سعدون شعر ذات ليلة رمضانية بليلة القدر، وشاهد انتكاسة الدنيا، وتحول عاليها سافلها.

ضحكنا كثيرا عليه، وحين عرف المعلم جمعة بأمر سخريتنا، نهرنا مرة أخرى وقال: إن الرضع والمجانين يرون ما لا نرى، ويشعرون بما لا نشعر به، الدنيا تتكشف لهم، كما لم تتكشف لنا.

ومضى إلى طريقه.. أما نحن فقد شرعنا نبحث عن سعدون، لنسأله أكثر عن الدنيا وهي منكسة عاليها سافلها، حالها.. وأحوالها، ضحك سعدون، وقرقح حصياته، ثم طفق يجري بعيدا عن حارتنا.

***

حارتنا تستقبل الغرباء، يصبحون جزءا منا.. لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ذات يوم جاءنا غريب، ـ مثلك تماما ـ لم نعرف مقصده ووجهته، ترصدناه بأنظارنا، ثم اقتفينا أثره، حتى وصل قريبا من دارنا، وهناك وقف، ظنناه أول وهلة، إنه يقصد سلاموه، ويبتغي بركاتها، فتركناه لحظة ينعم بقربها ودفئها، وحين لم يعر النافذة اهتماما، اقتربنا منه، حتى صرنا قبالته، حينها التفت إلينا، وسألنا عن بن منصور.

كانت أصابعنا تشير جهة دار بن منصور، وتهرع لأخذ الغريب إلى طريقه، وإرشاده إلى السكة التي تقود إليه، كنا صفًا واحدًا يأخذ الرجل ناحية دار بن منصور، والرجل بيننا حائر من هذا الكرم الطفولي الذي وجده في حارتنا.

ادخل بن منصور ضيفه داره، وبقينا نحن خارجا ننتظر من يأتينا بسر هذا الرجل وحاجته، وما يريده من بن منصور.

وحين خرج واصل طريقه، وهو يمطرنا بكلمات الشكر، على كرمنا معه، ولم ينبس ببنت شفة، حتى بن منصور لم يقل هو الآخر شيئا، وظل سر الغريب مدفونا زمنا، حتى جاءت الأيام التالية وكشفت كينونته.

بعد صلاة العصر، وفي دار بن منصور اجتمع والدي والعم مسعود والمعلم جمعة وسليمان ود خميس ومحمد ود سالم، ورجال آخرون لم يشر إليهم والدي في حديثه الذي استرقته من حديثه مع ود النحاس وصالح ود جمعة.

عرفت من حديث والدي أن الغريب الذي جاء إلى حارتنا، كان يود شراء منزل عائشة أم البنين، أو استئجاره، كان الغريب يريد أن ينتقل إلى الحارة ليصبح واحدا من أهلها.

قال والدي: إن الرجال اختلفوا بين مؤيد ومعارض، كان من الصعب عليهم تقبل رجل غريب لا يعرفون له أصلا وفصلا، ويصبح بين ليلة وضحاها واحدا منا، له ما لنا، وعليه ما علينا.

فيما رأى البعض الآخر، أن الخيرين من الرجال، سيماهم في وجوههم، تعرف في ملامحهم أثر العشرة الحسنة والجيرة الصالحة، والغريب منهم، وقد ارتاحت له نفوسهم، واطمأنت إليه قلوبهم.

بعد حين من الزمن.. جاءنا الغريب، رأيت ود منصور والمعلم جمعة يتقدمونه، ومن خلفه كانت ثلاثة حمير تحمل متاعه وعائلته، كانوا خمسة أشخاص، الغريب وزوجته وولد وبنتان.

عرفنا أن الغريب يدعى خليفة الشمار، كان يحترف دباغة الجلود، لكننا لم ندعه قط باسمه هذا، ظل الغريب اسما ملازما له، ردحا طويلا من الزمن.

***

لم يقل لنا أحد، لماذا تعيش سلاموه بيننا، وما الذي حبب إليها حارتنا، وهل هي من الجن أم من الشياطين، هل هي تقية من أولياء الله الصالحين، أم شقية من الشياطين، تتوعد من لا يكرمها بالويل والثبور.

حدث أن ولدت زوجة سليمان ود خميس ذات مرة، ونسيت أن تقدم قربانها لسلاموه، حدثتها نسوة الحارة عن أهمية أن تذهب إلى سلاموه، وتعطيها بعضا من العنبر والبخور، وتسكب على نافذتها الصندل والعطور.. تلكأت زوجة سليمان في القدوم إلى سلاموه.. فكان أن أصيب رضيعها بالصفار، وعجزت هي عن المشي والوقوف، ومكثت زمنا وهي تعالج نفسها ورضيعها، دون جدوى.

في صبيحة أحد الأيام تذكرت زوجة سليمان، أنها لم تزر سلاموه، ولم تقدم واجب العطاء إليها، حملت جسدها بصعوبة، وحاولت المشي على عكاز، ثم استندت على الجدار، تتكيء عليه حتى وصلت إلى نافذة سلاموه، وخضبت أعمدتها، بالعطور، ودهنت الجدار حتى أخمصه بشتى أنواع البخور، ثم جلست وأشعلت النار في المجمر الذي حملته معها، ووضعت عليه من الطيب، وحين فاح شذاه، ملأ طريق الحارة، وعانق المنازل من حولنا، كان منزلنا أكثرها حظوة بالرائحة الزكية.

أطللت من شرفة علوية في دارنا على زوجة سليمان، كانت تناجي سلاموه بصوت خافت، وتطلب منها السماح على تقصيرها، وعدم زيارتها..

قالت زوجة سليمان من الكلام الكثير، وباحت بجرمها، طلبت من سلاموه العفو والسماح، مسكت بأعمدة النافذة، وسالت دموعها، وهي تنظر لحالها، ثم رأيتها تقف على قدميها، وأقسم لك، أنني لم أر زوجة سليمان بهذه القوة والعافية، كما رأيتها ذلك اليوم..

مثلك والذين نحكي لهم حكايات سلاموه، لم يصدقوا حديثنا، قالوا أضغاث حكايات، وطفقوا يخصفون علينا بسمات الجهل والتخلف، لكننا لم نتوقف عن سرد كرامات سلاموه، وبركاتها علينا.

سيقولون لنا إنها محض خيال، وإنها أسطورة لا وجود لها.. سيقولون إن حارتنا تقتات على الوهم.. ومثل ذلك الكثير والكثير.

اقترب من هنا، انظر للنافذة، وألمس بقلبلك النور الساطع
منها، أشعر بها قريبا منك، تسمع لك، ألا تشعر بسكينة واطمئنان في هذا المكان، ها أنت ذا تسح دمعة من عينيك، وتمسك بالنافذة، ستتلو حاجتك، وتقول ما يعلتج ذاتك من حوائج..

مثلك نحن، والذين جاءوا من قبلنا، لكننا لا نثقل سلاموه، بحوائجنا، إننا نريد أن تتعايش معنا، ونحس في جوارها بالأمن والأمان..

يولد لنا أطفال، يواجهون أمراض شتى، تفتك بهم الواحد تلو الأخر، ولنا كبار في السن لا يقوون على النهوض والوقوف على أقدامهم، ولفتياتنا أحلام كثيرة، ليس أهمها أن يطرق أحدهم بيت والدها، ليتقدم طالبا يدها.. وحدها سلاموه من نلجأ إليها، حينما تعصف بنا الدوائر، وتدور بنا النوائب، وتشتد علينا المصائب.

سيقولون لك.. شيطانة.

لا تصدقهم، من يقف مثلك باطمئنان وسكينة، عند نافذتها، لا يمكن أن يتقول على سلاموه، بركة الله وسلامه علينا أهل الحارة.

***

أخبرتك الآن كثيرا عن سلاموه، حكيت طويلا عنها، وأحوالنا معها، ونسيت أن أقول لك عن الغريب الذي سكن حارتنا، كما نسيت بستان الحارة، ونسيت أن أخبرك عن السيل العرم الذي ضرب حارتنا، هكذا أخاله.

ذات يوم سمعت والدي، يعنف كل من البيت، ويتوعد المتسبب بالخصام، كان مخزن الفاكهة المحفور في أحد غرف الدار، خاليا إلا من قشور السفرجل، وبقايا بذور تناثرت يمينا وشمالا، سأل والدي عن الذي سرق الفاكهة في غير أوانها، كان الجميع صامتا، لا يدري بما يجيب.

وانفض الجمع بعدئذ دون تبيان من الذي أكل الفاكهة، وحرم الجميع منها.

اكتشفت بعد سنوات، أن والدي هو الذي قام بفتح المخزن، وتذوق الفاكهة، ثم جاء عمي من بعده، وتبعته عمتي، دون أن يعلم كل منهما بالآخر، تركوا ثمرة واحدة، ونسوا اغلاق الفتحة، وحين دخل أخي، غرته الثمرة، فأكلها ولم يكن من النادمين.

لا نعرف في حارتنا من الفاكهة غير السفرجل والبرتقال، وما تجود به أشجار بستان الحارة، كالعنب والموز اللذين يثمران عاما، ويهمدان عاما آخر.

في بعض الأحيان تجود الحارات القريبة منا بفاكهة الأنبا، نأكل حاجتنا، ونخلل الباقي، أمهاتنا وحدها تجيد الوصفة السحرية، وفي أحيان قليلة تأتينا فواكه لا نعرف أسماءها، ولم نتذوق من قبل طعهما، فاكهة متعددة الألوان والأحجام، بعضه له مذاق سكري والآخر حمضي، والأكثر لا نعرف وصفا لطعمه ومذاقه.

مخزن الفاكهة المحفور في إحدى أرضيات المنزل، والذي يتسع لجلوس ثلاثة أشخاص تقريبا، يكون غالبا قريبا من البئر، حيث برودة المياه تسرى إلى جدران الحفرة، وتحفظ الفاكهة لأسابيع وحتى أشهر.. يتم وضع طبقة الفاكهة على جريد النخيل المبتل، ثم تغطى بطبقة جريد أخرى، ثم طبقة من الفاكهة، وبعدها طبقة من الجريد، وهكذا، نضمن سريان البرودة إلى حبيبات الفاكهة، تحفظها أمدا بعيدا.

في الشتاء نفتح الحفرة، وكلما اشتاقت انفسنا إلى طعم السفرجل، هذه الفاكهة التي تكون مثار حديث الجميع حول مائدتها، كل يقص حكايته، وحواديثه.. سيخبرونك عن الطريقة المثلى في حفظ الفاكهة، والكيفية التي تجعل الثمار طازجة، كما لو قطفت للتو، وسيقول بعضهم: إن الفاكهة في الحفرة زادت نتيجة البركة التي حلت عليها، وبعضهم سيقول إنه وجد قشور الثمار دونها، أو كانت الحفرة خاوية على عروشها.. وطبقات الجريد بعضها على بعض، لم يمسسها بشر.

غير أن قمة الكرم في حارتنا، وأخال ذلك في كل الحارات، هو تجمع الأهالي كلهم، يحمل كل منهم دلة القهوة، وما تيسر من التمر أو الثمار، ثم يلتف الجمع عليها، وهم  يرتشفون فناجين القهوة من كل دلة، وكل يتباهى بجودة قهوته، وأفضلية صنعها.

ستسمع الكثير من العبارات، تحفزك على أكل التمر وشرب القهوة، سيقولون عن التمر إنه "مسمار الركعة" ويقولون "إن القهوة داء ودواء"، سيخبرونك عن الشيخ الذي يقصد بيت أحدهم ليستمتع بمذاق القهوة، التي لا يجيد صنعها إلا هو، ويخبرونك عن آخر تذوق طعم القهوة في بيت أحدهم، فلم يزره مرة أخرى.

***

هذه حارتنا.. خليط من الحكايات، وروايات لا تنتهي.. كلما أذنت فصول حكاية بالختام، تكشفت عن حكاية أخرى، وحامت في أفقها دوامة متواصلة من الأحداث، كلها تذهب جفاء.. أما سلاموه.. ما تنفع الناس، فتمكث في الذاكرة.

أقرأ :

عن سلاموه أحدثك





مقاطع من حكاية طويلة قيد الأعداد

الثلاثاء، 6 مايو 2014

حكايات حارتنا ( 1 )

عـن سلاموه أحدثك




 لو سألت أي أحد في حارتنا عن سلاموه، لأشار جهة بيت بعد مدخل الحارة بعدة بيوت، يرتفع لطابقين، ويتقارب مع الدور الأخرى في معماره وهيئته، لن تجد أي اختلاف بينه وبين المنازل الطينية المحيطة، ولا يمكن للرائي أن يلمس أي فروقات تميزه أو تغيره عما حوله..
ولن تحتاج للسؤال عن سلاموه وما تكون بالنسبة لأهالي الحارة، وكيف تشكل حياتهم وتصيرها.. في الشدة والرخاء.. في المصائب والأفراح.. فالجواب سيأتيك منقادا، يجر بعضه بعضا، ويحدثك عن حكايات وقصص عايشها ابناء الحارة، واقتربوا منها كما ستقترب منهم حين تلج إلى حارتنا.. وتلثمك أنفاسها..
***
حارتنا ليست مختلفة عن باقي الحارات، هي مجموعة بيوت
تمتد على طريق صغير تحيط به ذات اليمين وذات الشمال، والطريق باسط راحتيه، ممتدا إلى الداخل حيث بستان الحارة، كما اصطلحنا على تسميته، وهو الآخر ليس بذات الاتساع، غير أنه يشكل بالنسبة للحارة مساحة خضراء يقذفنا بروائح النخيل وثمار بضع أشجار تتناثر في جنباته، وفي المنتصف حوض الماء الذي يسقي الأشجار، ولنا فيه مآرب أخرى.
حدود البستان من الجهة الشمالية الشرقية.. هي حدود الحارة، ويمكن أن ترى السور المحيط بالحارة يرتفع مجاورا للنخل، ومعانقا لشموخها، كنا نقعد قريبا منه، دون أن ندري كينونة ما يفصلنا هذ السور عنه، وما يحجبه عن أنظارنا، ويمنعنا عنه، نتداول في الأقاويل والأحاديث الباحثة في السر المكنون للسور المحيط بحارتنا من كل صوب.
ولأن السور يحيط بنا.. غير من بوابة مشرعة تفتح كل صباح وتغلق كل مساء، فإن القادم إلينا لا بد أن يكون ذا غرض أو حاجة معينة، نحن في الحارة نعرف الغريب، ونتابعه بأعيننا حتى يصل إلى مبتغاه، يسألنا عن ساكن في الحارة، أو حاجة له، نقضيها، أو يعود من حيث جاء، تشيعه النظرات دون سلام أو وداع.
لحارتنا أسرار كثيرة، وحكايات مدسوسة، لا نقوى الخوض في تفاصيلها، وربما يعود ذلك بحكم أعمارنا الصغيرة، التي تقف حاجزا بيننا وبين الخوض في هذه الأحاديث، غير أن الكبار يتداولونها في مجالسهم ولقاءاتهم، ويتعرضون لها بكرة وعشيا، يتحدثون عما هو خارج السور، وعن أناس لا نعرف سيماهم من أسمائهم.
لحارتنا طقوس فريدة، نتعرف بها على مواقيت العام، وفصوله، نعرف إقبال شهر رمضان مثلا من إدباره، والعيد الصغير من الكبير، ونعرف متى يحل القيظ، وتؤتي النخلة رطبها، وتجود الأشجار بثمارها.
في الصيف نقوم بتخزين ثمار السفرجل في سرادق ومخابئ تحت الأرض، نحفرها بمواصفات خاصة، لتكون باردة، تحمي ثمار الفاكهة من التلف، وكأننا في واد النمل، نسوق الغذاء، ليكون مخزوننا للشتاء، وحين يأتي الصقيع، يختفي المخزون وتتوه أسئلتنا حول كينونة الفاعل.
حارتنا تتسع كثيرا، لتضيق أكثر، والأبواب مشرعة لحكاية واحدة تتداول كل يوم بشكل جديد، حكايتنا نحن، أبناء الحارة، ومشاكساتنا لبعضنا البعض.
تفاصيل وحكايات كثيرة تتمخض عن حارتنا، تنبش جزءا منا، وتعري حياتنا.. بحلوها ومرها.. بفرحها وحزنها.. بسعادة أيامها وتعاستها، لم نكن بمعزل عما يجري في الحارات المجاورة، لكن طعم الحكاية في حارتنا له مذاق مختلف، له اشتهاء القيظ حينما نحزم أمتعتنا، ونأخذ بعض ذاكرتنا، نحملها للمزارع، حيث تتدلى أجساد الرجال من قمم النخيل، وتتقاذف نحونا التمرات، نبحث عنها بين الحشائش، لنجمعها في سلال صغيرة، ويكون أوفرنا جمعا.. أكثرنا حظوة.
***
حدثتك عن حارتي.. ونسيت أن أحدثك عن سلاموه، وأنت
تسألني عنها، وتحاول تغيير مجرى الحكاية نحوها، لكن حكايتها ليست أهم من حكاية بستان الحارة، إنه منبع الحكايات بالنسبة لنا نحن الصغار، فيه نستقي أخبار الحارة وأحداثها، ونرقب كل جديد من خلال جلسات تمتد حتى المغيب بين نخيل البستان.
لم نكن نمارس أكثر من الحديث، وتقاذف الكلمات في كل صوب، نحكي حكاياتنا، ونسرد قصصا سمعناها وتآلفنا معها، نتناقلها كما الرواة من ألسن أهالينا، لنكتشف أننا جميعا نحفظ ذات الحكاية ونعرف تفاصيلها، فنطلق ضحكات على بلاهتنا، من تصور حكاية تخرج من أحد المنازل، دون أن يكشف قناعها أحد، أو تدلف لبيت آخر، تلوكها الألسن، بكرة وعشيا.
ذات ليلة أسر أبو سالم لزوجته بنيته تزويج ابنه سالم عما قريب، كان الخبر في الصباح منتشرا، تتقاذفه الأحاديث، دون أن يكون له مصدر محدد.
كنا في البستان حينما قالت مريم، الفتاة الأكثر نضجا بيننا، إنها تتمنى أن تكون الفتاة التي يختارها سالم، قرأنا في عينيها أمارات الحب، وراحت تحدثنا عن أسرارها، وتتقافز كفراشة بين الزهور.
لم نكد نخرج من البستان، حتى كانت الويلات واللعنات تطاردنا، حين سمحنا لمريم أن تكشف أحلامها وتقول عن مكنون ذاتها، وتسرد مشاعرها وأحاسيسها، كان الحب بلغة الحارة محرما، وجريمة تستوجب أشد النكال، وقد طال ذلك مريم.
في اليوم الثاني لم تأت إلى البستان، ولم نلمحها في طرقات الحارة.. وتوارت حكايتها، وآلت فصول عشقها لسالم إلى النسيان، لولا أن تداركتها حكاية بزغت فصولها ذات يوم، حينما تناقلت حارتنا خبر مريم التي دخلت البستان، فأكلها الذئب، لم يعرف أحد من يكون هذا الذئب.. ولا محله من الحارة أو الحارات الأخرى.
قال بعض أهالي الحارة إن مريم هي التي تعرضت للذئب وأغوته، وإنها ليست المرة الأولى التي تعطي مريم جسدها للذئاب.. يومها تحولت حارتنا وقد جاست فيها الذئاب تنهش مريم وتأكل لحمها حية.
في تالي الأيام رحلت أسرة مريم، حملت فضيحتها، وغادرت إلى حارة لا يعرف لها طريق، تلاشت حكاية مريم، وبقيت حكاية الذئب..
***
ولا تغيب سلاموه عن حكاياتنا، هي عالقة في كل نفس يواتينا، نمر عليها بكرة وأصيلا، نلقي التحية عليها حينا، ونمر عليها صمتا كثيرا، لم يفكر أحد منا، من تكون سلاموه، وما الذي جاء بها إلى حارتنا، ولماذا استوطنت هذه الغرفة الضيقة من البيت الفسيح.. البيت الذي لن يغلبني في روي تفاصيله، وسرد محتوياته، يمكنني أن أقول لك عن كل ساكن في هذا البيت، وأحكي لك قصته من يوم مولده، أو إلى ذلك أقرب..
ولن تسألني عن البيت وساكنيه، فالذي أتى بك إلى حارتنا، وحدها سلاموه، وليس ساكن آخر، لكنني لا أود أن اقول لك عنها دون أن أحكي لك شيئا عن حارتنا.. معالمها وملامحها.. بيوتها ومساكنها..
تبدأ حارتنا من الجهة الشرقية، حيث يمتد السور لتكشف
بوابته، عن منازل متحاذية، تشد بعضها بعضا، وتتعاضد مجتمعة تقارع السقوط، والانهيار.
هنا مسجد الحارة، يفضي إليه باب واحد، يتخلله سلم للصعود إلى ساحته، التي تحوي مكان الوضوء، وقبالتها تبدو قاعة الصلاة، ويمكن الدخول إليها من بابين، وهي مزدانة بالعقود والنقوش الزخرفية، تتخللها آيات قرآنية بخطوط بديعة..
لو دخلت المسجد لأول مرة، ستنصرف عن الصلاة بالتأمل في النقوش والزخارف، ولشغلك ذلك عن الخشوع، وتذكر القراءة والركعات.
لم أقل لك بعد من سلاموه، أخذتني الحارة وتفاصيلها، ابتعدت كثيرا عنها، لكن الأحداث تدور، لتأتي عندها، في البقعة التي تسكنها، حيث ينتصب منزلنا شاهدا على حكاية سلاموه، وبركاتها علينا وعلى أهل الحارة ومن حولهم أجمعين.
في كل صباح ألمح أمي تدخل الغرفة التي تسكنها سلاموه، ثم تخرج بعد ساعة زمن، لتكمل أعمال المنزل، لم أدر ما تقوم به أمي في هذه الساعة، ومأربها من دخول غرفة محرمة علينا جميعا..
كانت أمي قبل دخولها إلى الغرفة تحوقل وتسبح الله تعالى، ثم تدخل الغرفة وتغلق الباب على نفسها، أما والدي فكان ينظر للأمر بصورة اعتيادية، وكأن شيئا لم يكن أمام ناظره، أو كأنه يدري ما تقوم به أمي في حضرة سلاموه، وفي مسكنها، كل مرة يغادرنا فيها أراه يسكب دهن العود على الشرفة الخارجية للغرفة، والمطلة على الطريق، الشرفة التي تحاذي باب دارنا من الجهة الشمالية، والتي ترتفع على مرمى أبصارنا.
تأتي الوافدات إلى سلاموه، فيلقين عليها السلام، ويسكبن عطور العود ويوقدن البخور، لتتصاعد الروائح في المكان، ثم يضعن المجمر قريبا من الشرفة، وينثرن حوله الصندل والمحلب والعنبر وعطور مختلفة الألوان والروائح.. وقريبا من المجمر، تلقين التمائم والتعاويذ، ويطلبن البركة، من سلاموه..
وستسألني مرة أخرى عنها، أنا الذي بدأت أسرد عليك حكايتها، ونسيت أن أكمل لك قصة الحارة.. ومساكنها.
على محاذاتنا.. من جهة غرفة سلاموه ـ كما نطلق عليها، لنؤكد انفصالها عن المنزل وقاطنيه ـ يقع منزل العم مسعود، الرجل الذي يهرع إليه جميع الأطفال حال مشاهدته، كان العم مسعود يحمل السكاكر والحلويات، يوزعها على الأطفال الذين يلتقيهم، فتتلقفها أياديهم بالفرح والسرور..
قريبا من منزل العم مسعود يسكن منصور أخو البيدار، ومن ثم تنعرج الطريق لتصلك إلى بيت عائشة أم البنين، ثم بيت ود النحاس، حتى بيت المعلم جمعة، وأخيرا بستان الحارة..
***
يتحدث كثير ممن زارنا، إننا محظوظون جدا في حارتنا، فلدينا
المسجد، ولدينا البستان، ولدينا المدرسة، وقد نسيت أن أحدثك عن مدرسة القرآن الواقعة على أطراف حارتنا، من الجهة الشرقية، قريبا من الطريق المفضية إلى المسجد، وبمحاذاة منزل المعلمة جوخة.
في كل صباح نحمل الكراريس الملفوفة في أقمشة خضراء، تطرز بنقوش، تبدع أمهاتنا في خياطتها.
تجلس المعلمة جوخة، وهي تتأمل الصغار، من الأولاد والبنات، ثم تشير إليهم بعصاها الغليظة لبدء القراءة، فتنطلق الأصوات من كل جانب، وهي تتلو سور الكراس، من سورة الناس وحتى سورة عم.
لا نعرف كيف يمكن للمعلمة أن تستمع لكل هذه القراءات مرة واحدة، وكيف يمكنها أن تصوب أخطاء القراءة، كل ما نعرفه أنها تتمتع بحاسة سمع قوية، تتيح لها سماع همسات الأولاد في حين يعلو صوت أحدهم بقراءة سورته.
قرأت أمام المعلمة جوخة، سورة الناس، بعدما أتممت القاعدة البغدادية، وعرفت تهجئة الحروف، وبعد سورة الناس مررت على سور الفلق والإخلاص والمسد، حتى وصلت إلى سورة عبس.
وحين قرأت أمامها، أواخر سورة النبأ، قالت لي وهي تفاخر بي بين أقراني الأولاد، بارك الله فيك، غدا أحضر معك الختمة، عدت ذلك اليوم مزهوا للبيت، وبشرت أمي بقول المعلمة، انتقت أمي لي ختمة حديثة، وجمرتها، ثم وضعتها في بخشة خضراء زاهية، ووضعتها في الرف، وهي تشير أن الختمة جاهزة.
لمحت أمي بعدئذ، وهي تشعل الجمر، ثم تضعه في المجمر، وبعدئذ حملت مكبة البخور، ونزلت إلى غرفة سلاموه، ودخلت هناك، وأغلقت الباب.
كانت روائح العطور والبخور تفوح من الفتحات الصغيرة للباب الخشبي لغرفة سلاموه، انتظرت حتى خرجت أمي وأغلقت الباب من الخارج بالقفل، وقالت لي إنها قدمت بركات اتمامي جزء عم لسلاموه، ونذرت لي.
لأول مرة، أسمع أمي تتحدث عن سلاموه، وعن النذر أمامها.
أعرف شوقك لمعرفة من تكون سلاموه هذه، وما النذر الذي قامت به أمي أمامها.
كنت مثلك حينها، حائرا عن سلاموه، ومن تكون.
لماذا هي حاضرة في أحاديث النساء وحدهن، دون الرجال، لم أسمع والدي يوما يتحدث عن سلاموه، وهي التي تستوطن غرفة بأكملها من غرف الدار.
كان والدي أحوج ما يكون لهذه الغرفة، والتوسع بها بين غرف الدار، كنا ـ أنا وأخواني الخمسة ـ نتكوم في مكان واحد قريبا من منام أمي وأبي، لم يكن لأي منهما مكانه الخاص، ففي ذات الركن الذي تضع أمي ملابسها يعلق والدي ملابسه على وتد خشبي، بعضها فوق بعض، وقريبا من هذا الوتد، أعلق أنا ملابسي.
كان الوتد، مثقلا بالملابس التي تعلق عليه، كلما خف من حمل، زاد حمل آخر.
لو لم تكن سلاموه، تستوطن وحدها غرفة عرضها مدرسة القرآن، وطولها طريق يحتوينا ساحة الظهيرة، لما اغتظنا وسخطنا عليها، من تكون هذه التي تختار أجمل وأوسع غرفنا لتعيش فيها وحدها، فيما نحن نتزاحم على مكان ضيق في غرفة صغيرة.
لم أقل لك مكان غرفة سلاموه، من دارنا.
وأنت داخل على الدار من الجهة اليمنى، يصادفك سلم يفضي بك إلى الدور الأول، في الدرجة الثالثة من السلم، تكمن الغرفة بابها خشبي بنقوش جميلة، مغلق باستمرار بقفل حديدي كبير، وحدها أمي من يملك مفاتيحه.
هذه الغرفة لم أر أحد يدخلها غير أمي، كانت تدخلها فتغلق الباب عليها، ثم تخرج، وتعيد الغلق مرة أخرى.
كان عليّ أن أعيش زمنا حتى أعرف ماهية هذه الغرفة، وحقيقة سلاموه التي ظلت تعيش في الدار حتى يوم انتقلنا منه، في ترحالنا الصيفي.
***
ماتت عائشة أم البنين، وقبلها ماتت موزة بنت ناصر، وماتت نصراء بنت سعود، وستطول القائمة يوما لتشمل كل نساء الحارة وحتى رجالها.. صغارها وكبارها.
ماتت عائشة أم البنين، ومشينا صغارا وكبارا في جنازتها، لمحت ولدها جمعة في الحشد الجنائزي، كان يبكي بحرقة، ويمشي متثاقل الخطى، لا تكاد قدماه تحمله إلى المقابر، وهو الذي ساقته ذات مرة إلى هنا في جنازة والده.
مسكين جمعة من سيكون له بعد رحيل أمه، وكيف ستمضي بهم الحياة، بعدما صاروا أيتاما بلا أم ولا أب، ولا سند يحميهم.
سمعت والدي يتحدث إلى ود منصور، وهو يقول إن الله وحده سيتكفل برعاية جمعة وأخوانه، ولن يضيعهم.. وسيمتد خير "المرحومة وبركتها" إلى ابنائها، وابنائهم من بعدهم.
في العزاء الذي أقيم في مسجد الحارة، كان الجميع يتقبل التعازي في الفقيدة، لمحت ود منصور وهو يستقبل المعزين ويودعهم، وكأنه صاحب العزاء، كان الحزن والأسى باديين على وجوه الجميع.
كان من بين المعزين، رجال غرباء، وقفوا إلى جانب جمعة وإخوانه، ولازموهم، وحين سألت والدي عنهم، قال إنهم أقارب المرحومة، وأنهم ينوون أخذ الأولاد للعيش معهم.
سألت جمعة في لقائي التالي به، عن رأيه في الأمر، فصمت، وقال إنه وإخوانه لا يريدون أكثر من العيش الكريم، كما أنه لا يرغب في مفارقة الحارة، ولذلك هو حائر بين الأمرين.
عرفت فيما بعد، أن ود منصور عرض على أقارب جمعة أن يتكفل برعاية جمعة وإخوانه، ويبقوا في الحارة، لكن الأقارب عارضوا الفكرة، حتى لا يحملوا ود منصور ما لا طاقة له به، من جهة ومن جهة أخرى يبقوا أولاد عائشة أم البنين في رعايتهم.
وانتقل جمعة وإخوانه، وخلال أيام كان منزلهم معروضا للبيع، وهنا تقدم ود منصور لشرائه، ليس ليسكنه، فحسب، بل ليحفظ ذكرى أهله، وساكنيه، وحتى لا يأتي غريب إلى حارتنا، لا نعرف له أصلا ولا فصلا.
ولم تكد تمر أسابيع قليلة، حتى آل اسم عائشة أم البنين إلى النسيان، ولم يعد يذكرها الناس في حارتنا، علنا، غير أنها بالتأكيد لم تنطمس من ذاكرتهم، بقيت وابناها محفورة في أذهانهم، كلما مروا قريبا من بيتهم الذي كان، البيت الذي تمنيت أن تنتقل إليه سلاموه، وتعطينا فسحة في دارنا، لكن قدرها كان أمرا مقضيا.
***
لو سألت أي أحد في حارتنا عن سلاموه، سيدلك عليها،
وستقف قبالة دارنا، فيما سنقف نحن حولك، ذات اليمين وذات الشمال، ننتظرك أن تنهي السلام عليها، وتقدم لها القرابين وتطلب منها البركات.
ولأن نافذة بيتنا، أو أقرب منه ذلك نافذة غرفة سلاموه، صغيرة فلن تحتاج إلى قرابين كثيرة لتقدمها بركة للساكنة فيها، يكفي أن تمسح بدهن العود ـ كما يفعل رجال حارتنا ـ وتخضب الجدار بعطور المسك والعنبر والزعفران، وإذا زدت من الورس والمحلب، فلك البركات تزيد وتتعاظم.
سنقف قريبا منك، وأنت تتلو رجاءك، وتقرأ شكواك، لكن لا تطيل الوقوف في حضرتها، وأنت الغريب الواصل إلينا.
لم تقل لنا من أنت؟.. وما الذي جاء بك إلى سلاموه، في حارتنا وتركت جميع الحارات..
أخبرني والدي ذات مرة، أن في كل حارة سلاموه، تحميها، وتهل بركاتها عليهم، فهلا أتيت إليها، ونلت بعضا من بركاتها، وتركت لنا بركات سلاموه.
لم نسمع بأحد جاء إلى حارتنا، لهذا المبتغى، ولم يسألنا أحد من قبل عنها، لنا سلاموه، ولنا البركات، وعلينا القرابين.
***
هذا أنت الآن تعرفنا، وتعرف حكايات حارتنا... وحين تنصرف عنا، قد لا تذكرنا، لكنك حتما ستذكر سلاموه.

أقرأ :
لا تقل إنها أَضْغاثُ أساطير
 _______

مقاطع من حكاية طويلة قيد الأعداد