السبت، 19 يناير 2013

همس الرحيل


لا أعرف بأي الكلمات أبدأ رثائي هذا؟!
ماذا، أقلت رثاء؟!.. أردد الكلمة بيني وبين نفسي، لأدرك عظمة الفقد، وألم الفراق، وأن لا تكون بيننا، أو لا ننتظر منك رواية جديدة، نتباهى بها، وندفعها لتكون سفيرنا، حين يأتي كل فريق بابداعه.
ترحل.. هكذا بصمت دون ضجيج، بعدما أتعبك السفر في دروب الحياة، وأضناك الحنين إلى أن تكون وحيدا، بعيدا عن مشارط الأطباء، ووصفات العلاج الصارمة، تكره أن تقيد روحك، وأن تحاصر بما عليك أن تقوم به.. وما عليك أن تتركه.

***

آه يا علي..
كم أتعبك الرحيل، بين دروب الحياة؟!
تقذف جسدك المنهك، على مقاعد السفر، تنظر للبعيد، تفتش عن مدينة تتسع أحلامك، وحين تنهك، تعبر الجسر، وتهمس للرفاق، أن قاد حان الرحيل، ثم ترقد بسلام في صحم، وتكتب ملحمتك الأخيرة.
***

في يوم الأحد 25 يناير 2009م، التقيت به بعد غياب طويل، كنت أعرفه كأسم مذ أن كان مديرا لدائرة الاعلام في جامعة السلطان قابوس، كانت المناسبة احتفاء النادي الثقافي ممثلا في أسرة كتاب القصة برواية "همس الجسور".
في هذه الأمسية، اقتربت من "همس الجسور"، وشدني الحديث عنها، وعوالمها التي تحمل الكثير من الصدق والوعي، وطرقت محكيا منسيا من التاريخ العماني، تم تناوله بحكي غير مألوف في الرواية العمانية ـ كما قال حينها حمود الشكيلي ـ.
كنت أستمع إلى مداخلات الحضور، وتعقيب علي المعمري عليه، وإجابته على تساؤلاتهم، وأنا أنظر للنسخ القليلة التي أحضرها المعمري معه، وقال إنه سيتبرع بريعها لإحدى جمعيات رعاية ذوي الإعاقة.
أشرت إلى الصديق ناصر المنجي الجالس على المنصة قريبا من المعمري، أن يحجز لي نسخة واحدة، بتوقيع الكاتب، وكان لي ما أردت..
ليلتها لم أنم، فقد كنت في صحبة علي المعمري، أستمتع بهمس جسوره، وأرحل بين ظفار وأسطنبول وبيروت.. وأسأل نفسي، كما سئل علي من قبل، أي فكرة هذه التي سقطت عليك.. وأي جسور همستك لك، لتكتب هذه الدرة الثمينة، وتخط أسمك روائي بديع، تأسرنا حروفك، وتسحرنا كلماتك، وتشدنا الفكرة من مبتدأها إلى منتهاها؟!
كان علي المعمري، في تلك الليلة نبيلا، يفيض حبا لكل من حضر وشارك الاحتفاء به وبروايته، قال إنه بدأ يعد لعمل روائي آخر، يتمنى ألا يقل عن "همس الجسور".
وصدق علي المعمري..

***

وكأنني أسمع أصوات كعوب وحوافر ركض بن سولع، مخلفة نقع أتربة بمواطئها في الصحراء.

***

إذا مُتّ، فادفنوني في قريتي التي ولدت فيها، حتى تسقي دمائي وعظامي وعروقي أرضها، كما هي سقتني من مائها وعشبها الأخضر، أريد أن أنبت فيها شجرة غاف وارفة، سيستظل تحتها غريب عابر، أو صديق عاثر..? أريد أن أترك قريتي ثانية، يكفيني الرحيل، تعبت من الترحال والتشرد.. قالها علي المعمري وهو على فراش مرضه الأخير، وكان له ما أراد.

***

آه يا علي..
أحقا رحلت.. أحقا سيتوقف "همس الجسور".. و"بن سولع" مكلوم في صحرائه، و"سفينة الخريف الخلاسية" أرخت شراعها عن "مفاجأة الأحبة"، دون أن تتحقق "فضاءات الرغبة الأخيرة"، أحقا تعبت من الترحال..
إذا آن لك أن تستريح..
لتبق روحك معنا..
وعليك السلام.. سلام الأحبة.