الأربعاء، 26 مارس 2014

على هذه الأرض ما يستحق الحياة ( 9 )



أطل من ربوة على صورة القدس ومعالمها، ترفرف الروح في عليائها، وتحتضن كل تفاصيلها، نسمع خفقات قلوبنا ترتج بين الصدور، والأشواق تتطاير لتحط بين القبة والمسجد، وتفتش عن الملامح المألوفة من الصور المتداولة، والذاكرة تستعيد مشاهد سمعتها، أو قرأت عنها.. أهفو لمعانقة كل مشهد هناك يراودني، وتقبيل كل ذرة تراب سكنت حياضها، ويصلني عطرها.
بدت معالم المدينة القديمة واضحة، وأنا أرسل بصري جهة قبة الصخرة، وهي في أحسن ما يكون، تتوسط الصورة وتلهب الأشواق فينا، قريبا منها لاح لي المسجد الأقصى وسور الحرم القدسي الشريف، والطرق الواصلة إليه، وهناك في القريب لمحت دخانا يتصاعد وسط الشارع، عرفت أن هذا المشهد اعتياديا في مدينة محتلة، يمارس فيها الاحتلال ابشع أنواع القهر والتسلط.
أقف بعيدا عن الرفاق، أناجي المدينة في صورتها البانورامية التي تجسدت أمامي، وأرسل بصري ليحط بكل الأمكنة، أستعين بلوحة ابتعتها من رجل قريب من المكان، أبسط اللوحة أمامي، فأجدها باللغة العبرية، أعود للبائع، مفتشا عن لوحة بلغة أفهمها، فلا أجد غير لوحات باللغة الإنجليزية، أختارها، ثم أعود لفك تسميات الأمكنة حسب الرواية الاسرائيلية.
في مدينة كالقدس، لا غرابة أن يمضي التهويد بوتيرة متسارعة، نتيجةً للحالة الرّثة للعالمين العربي والإسلامي وتخليهما عن مسئولياتهما تجاه الأقصى والقدس، فالدولة المحتلة تعمل جاهدة للسيطرة على المدينة المقدسة وتغيير معالمها بهدف تهويدها وإنهاء الوجود العربي فيها، وقد استخدمت لأجل ذلك الكثير من الوسائل وقامت بالعديد من الإجراءات ضد المدينة وسكانها، وكان الاستيطان في المدينة وفي الأراضي التابعة لها أحد أهم الوسائل لتحقيق هدف اليهود الأساسي تجاه مدينة القدس.
قريبا مني بدت "المقبرة اليهودية"، وهي تحكي جزءا من سياسة التهويد الضاربة القدم، تعاظمت بعد نكسة 1967م، وصارت المدينة بكل تكويناتها في دائرة الهدف الاستعماري لدولة الاحتلال، فكان الاستيلاء على البيوت والمنازل وهدم حارة الشرف والمغاربة ضمن سياسة وضع بصمات يهودية بالمكان، في أحداث تغيير للمشهد المكاني. وطال الهدم بدءا من الآثار الإسلامية في منطقة باب المغاربة وتتالت عمليات الاستيلاء على البيوت والمنازل في الحي الإسلامي والحي المسيحي باستخدام القوانين المختلفة لتنفيذ سياسة الخطوة خطوة باقتلاع الفلسطينيين من بيوتهم والاستيلاء عليها، وإحداث تغيير جغرافي وديموغرافي للصالح اليهودي بالبلدة القديمة ضمن مخطط مرسوم للجمعيات الاستيطانية بإقامة ممرات آمنة وتنفيذًا لمشروع القدس عام 2020 والذي يقضي بالتخلص من السكان الفلسطينيين وترحيلهم.
عندما أغلقوا باب قلبي عليّا
وأقاموا الحواجز فيّا
ومنع التجوّل
صار قلبي حارةْ
وضلوعي حجارةْ
وأطلّ القرنفل
وأطلّ القرنفل.
***
نصل منطقة الحرم القدسي الشريف، تتوقف الحافلة في شارع صلاح الدين المقابل لباب الساهرة أحد ثمانية أبواب لمدينة القدس القديمة، أفتح ذراعي ثانية، أستقبل النسمة القادمة من الحرم، احضنها بكلتا يدي، واضمها في صدري، واغيب في الحلم الذي قذفني إلى هذا المكان، لا آبه للمركبات التي تقطع الشارع جيئة وذهابا، احملق في المشهد الماثل أمامي، أراهم يدخلون من الباب تغشاهم السكينة، وتحفهم الرحمة، ويملأ الايمان قلوبهم، أود أن انعتق من صحبة الرفاق، وأكون طائرا، احلق في عرصات المكان، أود أن اسجد على الموضع الذي أقف فيه، أنا الآن قريبا من الحرم القدسي، صرت أقرب إليه من نفسي..
أعبر الشارع، يحاذيني عاصم الشيدي وحاتم الطائي ويسبقنا البقية، وربما لأن أرواحهم أخف منا، وربما لأن قدمي لم تقويا على السير، فتثاقلتا ليعانقا أديم الأرض أكثر، وعيناي انفرطتا من محجريهما، وحلقتا مثل حمامتين تبحثان عن عش يأويهما.
حين تبينت الخيط الأبيض من حلمي، صرخت بملء الصوت.. يا قدس يا مدينة الصلاة..
هتفت بالفرح الهادر في أعماقي.. أنا في حضرة المعراج.. واشتعلت حبا وحنينا..
أمشي كأني واحد غيري. وجرحي وردة
بيضاء أنجيلية. ويداي مثل حمامتين
على الصليب تحلقان وتحملان الأرض
لا أمشي، أطير، أصير غيري في
التجلي. لا مكان ولا زمان.
***
نعبر من باب الساهرة إلى داخل المدينة القديمة، نمشي بين الدكاكين، والدروب العتيقة، يتذكر عاصم الشيدي فيروز، فيسأل عن صوتها، ولماذا لا يسمع هنا "زهرة المدائن" أو "القدس العتيقة"، يجاهر بسؤاله، فيأتيه الجواب من قريب: "أذكر الله"..
ليوم الجمعة في دروب المدينة القديمة نكهة مختلفة عن باقي الأيام، الانتشار الأمني يكون على أشده، وتفتيش الداخلين إلى الحرم القدسي، ومراقبة التصاريح، وفصل الشباب عن الكهول، من الاجراءات التعسفية التي تتبعها سلطات الاحتلال، وما على الراغبين الوصول إلى العتبات المقدسة إلا الرضوخ للواقع.
لم نشعر بكينونتنا، إلا بعدما اجتزنا حواجز التفتيش، وصرنا في باحة الحرم القدسي الشريف.. هناك حطت الأرواح، وشعرنا بالانتصار، والحلم اصبح حقيقة.
تتسابق كاميرات التصوير لتخليد هذه اللحظة الفارقة من حياة كل منا، نهرع لنقترب أكثر، تترآى لنا قبة الصخرة بهيبتها وشموخها، وسطوتها على المكان، نختار الزوايا المناسبة للتصوير، مرافقنا وهو مرشد العتبات المقدسة ينادينا بالاسراع إلى المسجد، والتصوير سيكون له فسحة أخرى.
لا نهتم بطلب مرافقنا التوقف عن التصوير لحظتها للحاق على الصلاة، صوت الآذان المنبعث في تلك اللحظات يشنف أسماعنا، نتوقف خشوعا، أشعر بالدمع ينحدر من الأحداق، أردد مع المؤذن الكلمات، أحول كاميرا الهاتف إلى وضع تصوير مرئي، اطوف بالكاميرا حول المكان.
وحين يصل المؤذن إلى الخاتمة.. تتوحد صورة قبة الصخرة
مع مئذنة المسجد الأقصى.. ثم انضم للرفاق، ونسير إلى ناحية المسجد الأقصى.. وأنا أردد في سري آي الذكر الحكيم (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
يقودنا مرشد العتبات المقدسة إلى ناحية المسجد الأقصى، نعبر السلم الواصل إلى المسجد من ساحة قبة الصخرة، تبدو الصورة هناك أجمل وأشمل، نحاول الوقوف لإلتقاط المزيد من الصور، أسمع مرافقنا وهو يستحثنا، فالخطيب قد أستهل خطبته، والمسجد امتلأ عن آخره..
وبدلا من أن يفترش لنا مكانا في آخر الصفوف، رأيته يسير بنا نحو بوابة صغيرة في الركن الأمامي من المسجد، ومن هناك ندلف إلى ما يشبه غرفة النقل والتسجيل التلفزيوني، ثم بوابة أخرى في الداخل، بعدها نجد أنفسنا نتخطى صفوف المصلين، سيرا للأمام، حتى وصلنا قريبا من المنبر، هناك رأينا مكاننا محجوزا، وقد احيط بشريط، أزاله فور وصولنا، وأومأ إلينا بالجلوس هناك..
أنا الآن في الصف الأول من المصلين، داخل المسجد الأقصى، في يوم مبارك، استمع لخطبة الجمعة، بلباسي العماني، أقف مؤديا تحية المسجد، ونافلة الجمعة، لا أدري كيف أمكنني الوقوف لحظتها، وما الكلمات التي تمتمت بها، والآيات التي قرأتها في صلاتي، اشعر بدمعي ينهال، وقلبي يخفق بالفرح، ويضج صدري بالبكاء..
بكيت.. حتى انتهت الدموع
صليت.. حتى ذابت الشموع
ركعت.. حتى ملني الركوع
سألت عن محمد، فيك وعن يسوع
يا قدس، يا مدينة تفوح أنبياء
يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء.
***
قدماي تهتز في مكانهما، والروح تنسل من الجسد، أحاول أن أجمع الكلمات، تغشاني الرهبة، وأقرأ أقصر الآيات، أركع.. وفي السجود ألصق جبهتي بفراش الأرض طويلا، أسمع نشيجي، لا أود القيام من مكاني، وقربي من الله تعالى في هذا المكان الطاهر..
يقف الجسد.. وتمتم اللسان بالفاتحة وآي من الذكر الحكيم، أركع ثانية، وأسجد بعدها، ثم أغرق في المكان.. لا أشعر بأي أحد معي.. وحدي هنا، والخطيب يتلو كلماته على مسامعي أنا دون الأخرين، هو يمتدح الحجاج العائدين من بيت الله الحرام، ويثني على أداء مناسك حجهم، ويدعو الله أن يتقبل منهم، وأن يخلص المسجد الأقصى من قبضة اعداء الله.. وأن يحل الأمن والسلام على ربوع أرض فلسطين، وسائر بلاد المسلمين.
نقوم للصلاة بعدها..
لا أعرف ماذا قرأ الامام في صلاته تلك..
كنت معه جسدا، لكن الروح هائمة في المكان، والقلب سكن في المحراب المجاور لي، وأنا أركع وأسجد مع الإمام.. وأدعو الله تعالى أن يتقبل مني، وأن يرزقني العودة إلى هذا المكان، وقد عاد لحياض المسلمين، وآمن أهله على أرواحهم وحرماتهم.
نصلي العصر جمعا، يرتج المكان لصوت "الله أكبر".. ومن ثم نرفع أيدينا للسماء، ونبتهل إلى الله بما تيسر من الدعاء، نلتف بعدها حول مرافقنا مرشد العتبات المقدسة الذي يطلب منا جميعا أن نكون محاذاته، ويأخذنا في جولة داخل المسجد، يبدأ من عند المنبر الذي عاد إلى المسجد الأقصى المبارك في 23/1/2007م، بعد أن أعيد بناؤه في الأردن، بعد جريمة حرق المسجد الأقصى التي قام بها الإرهابي مايكل دوهان في 21 أغسطس 1969م، حيث أتى الحريق حينها على المنبر بأكمله ولم يتبقَ منه إلا قطع صغيرة محفوظة في المتحف الإسلامي في الحرم الشريف.
يقول مرشد العتبات المقدسة: إن المنبر الذي احترق كان بهي الصنعة، شاهدًا على روعة وجمال الفن الإسلامي، وقد صنع خصيصًا في عهد السلطان نور الدين زنكي، ليكون بمثابة تذكار لفتح وتحرير المسجد الأقصى، أما المنبر الجديد فيتألف من 16500 قطعة بعضها لا يتعدى طوله المليمترات، تم تجميعها في بناء طوله ستة أمتار من دون استخدام مواد تثبيت من صمغ أو مسامير أو براغٍ أو غراء، وإنما باستخدام طريقة التعشيق.
ونحن نسير في المصلى، توقف مرشد العتبات المقدسة جهة أحد أعمدة المسجد، وتأكد من وجودنا قربه، وأننا نسمع صوته ونراه، ثم بدأ حديثه بعد تنهيدة ممزوجة بوجع: "هذا ما أهدته لنا أميركا وربيبتها اسرائيل".. قالها وهو يشير إلى مكتبة صغيرة تحوي أنواعا مختلفة من الرصاص وقنابل الغاز التي استخدمتها قوات الاحتلال إبان اقتحامها المسجد.. وغطرستها التي لا حدود لها، واستهتارها بالمقدسات، وازدرائها للأديان، هذه الرصاصات "الأميركية الصنع" شاهدة على التواطؤ الأميركي مع سلطات الاحتلال فيما تقوم به من انتهاكات وجرائم عنصرية بحق القدس المحتلة والمسجد الأقصى المبارك، ضاربة بعرض الحائط كافة الشرائع والاتفاقات الدولية.
فاجأنا
مطر ورصاص. هنا الأرض سجادة، والحقائب
غربة!.
يجيئون،
فلتترجّل كواكب تأتي بلا موعد. والظهور التي
استندت للخناجر مضطرة للسقوط.
***
في باحة المسجد الخارجية، كان جنود الاحتلال يعبرون بكل عنجهية حتى نقطة حراستهم، عند باب المغاربة، حيث الانتشار الأمني هناك على أشده، وهم يتفرسون في وجوه المصلين، والداخلين إلى الحرم الشريف، ويفتشون عن أي ذريعة لاعتقال أي مشتبه به من وجهة نظرهم، واستصدار حكم بهدم منزله ونفي اسرته، بحجج واهية كثيرة، تهدف أولا وأخيرا افراغ القدس من أهلها، وتغير صبغتها الديمغرافية، وتحويلها من مدينة مقدسة للأديان الثلاث، إلى مدينة يهودية خالصة.
كان منظر الجنود يثير الاشمئزاز فينا، ومع ذلك فقد كنت احملق فيهم، واراقب تصرفاتهم، ولم أخف رغبتي بأخذ صورة تذكارية لهم، ليس حبا فيهم، ولكن توثيقا للحظة مهينة وضع الاحتلال فيها اقدامه على عتباتنا المقدسة، وانتهك حرماتنا، واضطهد وجودنا في أرضنا، وبين مقدساتنا.. وفي المقابل أحسب أن حال الجنود كان كذلك وهم يرمقوننا بنظرة مريبة، تبحث في كينونتنا، وهي تفتش في هيئتنا وملابسنا "العمانية" ما يبدد حيرتهم عنا.
كنا نتباهى بالدشاديش العمانية البيضاء، والمصار المزركشة الملفوفة على رؤوسنا، كتيجان فخر، كما كنا نتفاخر بوصولنا إلى هذه الأرض المقدسة، الكثير من المقدسيين كانوا يعرفوننا بسماتنا، واحتفاؤهم بنا لا تصفه الكلمات، وجدنا عيونهم تفيض من الفرح، وحفاوتهم تستقبلنا في كل زاوية نيمم إليها.
كان مرشد العتبات، يستحثنا المسير، ويطلب منا عدم الاحتكاك بالجنود، حرصا على سلامتنا، وقال إنه سيأخذنا إلى مسجد البراق الذي عبرنا إليه من مدخل قريب من باب المغاربة، وصولا إلى السلم الهابط إلى داخل المسجد.
تقول الروايات: "إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ربط دابته البراق في حائط هذا المسجد في رحلة الإسراء والمعراج"، وهناك على الحائط رأيت الحلقة الحديدية التي يقال إن البراق ربط فيها، ورأيت الرفاق يتناوبون على الامساك بها، وأخذ الصور التذكارية.
وصلينا في مسجد البراق مرة ثانية، وابتهلنا بما تيسر ما الدعاء، وكنت أحوم ببصري في المكان، متنسما روحانية المكان، وقدسية البقعة التي أنا فيها، لكني اعترف أنها لم تكن بروحانية المسجد الأقصى.. لكن المكان بشكله العمومي كان يبعث بالسكينة والطمأنينة، رغم القبضة الأمنية المحكمة لجنود الاحتلال، وتطويقهم المكان من كل ناحية.
في قبة الصخرة، التي انتقلنا إليها بعدئذ، كان بهاء المكان وفخامته مسيطرا علينا، ونحن ندور حول الصخرة المُشرفة التي عرج منها النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج، هنا في الصورة المتواردة في كل حكايات القدس، وأحاديثها، يبدو هذا المكان الأبرز والأكثر حضورا، ولا يكاد تذكر القدس وتفتح صورها، دون أن تكون قبة الصخرة حاضرة.
استحضر وصف ابن بطوطة لها، وأنا اتذكر صورتها: "أما قبة الصخرة فهي من أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلاً، قد توافر حظها من المحاسن، وأخذت من كل بديعة بطرف، وهي قائمة على نشر في وسط المسجد، يصعد إليها في درج رخام، ولها أربعة أبواب، والدائر بها مفروش بالرخام أيضاً، محكم الصنعة، وكذلك داخلها. وفي ظاهرها وباطنها من أنواع التزويق، ورائق الصنعة ما يُعجز الواصف، وأكثر ذلك مغشى بالذهب، فهي تتلألأ نوراً، وتلمع لمعان البرق، يحار بصر متأملها في محاسنها، ويقْصر لسان رائيها عن تمثيلها".
نطوف في المكان.. ومرشد العتبات المقدسة يخبرنا عن مكونات القبة، وعن الصخرة المعلقة دون عمد، وعن القباب الموجودة فيه، والنقوش التي يحتويها، كان يتعمق في تفاصيل الصورة، ويخبرنا عن كل جزء نأتي عليه، كانت مجموعة من النساء قد توزعن داخل القبة، بين مصلية ومبتهلة.
عند ركن صغير، اشار إلينا مرشد العتبات إلى المكان الوحيد الذي يمكن فيه لمس الصخرة، ورأيتني وقد وقفت مع الرفاق في طابور انتظر دوري للمس الصخرة، وتنسم العطر العالق منها.
وكأنني أشتم رائحة الحجر الأسود في الكعبة المشرفة، رائحة لا تخطئها أنفٌ تنسمت عطر مكة وعبيرها، فمسحت بيدي على وجهي، وأنا اتنفس عبق العطر وشذاه.

للحكاية بقية




 على هذه الأرض ما يستحق الحياة ( 8 ) 


الثلاثاء، 25 مارس 2014

هذه الصورة لا تشبهني



أريد صورة تشبهني .

قلت للمصور، وأنا أهم بدخول استوديو التصوير، وأجلس على المقعد المخصص لذلك.

نظر إلي، والدهشة تعلو وجهه، من هذا الذي يريد صورة تشبهه، وكأن هناك صورًا لا تشبه أصحابها.

لم يقل شيئا..

وإنما أشار لي باتخاذ الوضعية المناسبة لي للتصوير، والنظر بثبات نحو العدسة، وراح يتأمل الصورة المنعكسة عنده.

أتامل العدسة الواقفة أمامي.. أمسك بلحظة الزمن العابرة.. أحملها معي، لترافقني في الصورة التي ستكون بعدئذ ذكرى لإنسان كان هنا، أتأكد من كل التفاصيل التي تتلبسني، والملامح التي تميزني.. أتأكد من نفسي التي ترافقني، ومن نظرتي الحزينة التي تودع زمنا.. ستتذكره طويلا.

لا أعرف من سينظر لهذه الصورة في تالي الأيام، ولا الكلمات التي ستقال حينها، ولا أعرف أين ستحط الصورة رحالها في آخر المطاف، وماهية الكلام الذي سيدون أسفلها، حتى الذاكرة التي ستختزنها، تبدو لي ضبابية، لا ملامح لها.

على جدران الأستوديو بدت بعض الصور، وكأنها تشير إلى أناس كانوا في هذا المكان، وحطوا رحالهم هنا، رحلوا خارج الصورة، وبقيت ذاكرتهم، أراهم ينظرون إلي، أنا الذي سأصبح في لحظة توشك أن تبزغ، مثلهم، معلقا من ذاكرتي، أنظر من الفراغ، إلى الضجيج المحيط بي، ولا أتبين الخيط الأبيض من الأسود.
المصور يعطي اشارة استعداده لتوثيق لحظة الزمن التي أقف عليها.. يتأكد أن نظرتي مصوبة جهة العدسة.. بعد قليل، سأقوم من مكاني، فيما يبقي طيفي عالقا في المكان، سيقول المصور ذات زمن: كان هنا، في ذلك المقعد، يناظرني، كمن يناظر قدره، ويستسلم لمصيره، حين قبضت صورته، لم يبد أي مقاومة..
تطلق العدسة وميض يرتد له البصر خاسئا وهو حسير..
يقوم الذي يفترض به أن يكون "أنا" من مكانه، وأبقى أنا متسمرًا، يستعيد "هو" هيئته، وصورته التي جاء عليها، وأنا أنظر إليه دون حراك، أترقب ولادة الصورة.. و"طيفي" يهم بالدخول إليها، ويبقى هنا، يناظر كل من يناظر إليه.

يبزغ نور الصورة..

أنظر إلى الساكن فيها..

أتأمل ملامحه..

أفتش في هيئته..

يا إلهي.. أنه ليس أنا!.

ليس أنا من يقف في هذه الصورة، وهذا الوجه لا أعرفه، الشيب يغزو رأسه وعيناه جاحظتان وملامحه باهتة.. والحياة التي يحمل ذكراها، ليست لي، كل الضجيج الذي يلفني، لا أراه هنا.

أعيد تأمل الصورة.. هذا يحمل تعب السنين.. ووجع الأيام.. نظرته حزينة.. لا يكاد يقوى على الابتسامة.. كمن يناظر إلى قدره، لا إلى عدسة تلتقط له لحظة فاصلة من الزمن..

أذكر أنني أبتسمت طويلا، وأنا أستعد لتصوير هذه اللحظة، وأذكر أنني أمسكت بكل التفاصيل الجميلة والسعيدة في حياتي.. ووضعتها نصب عيني..

ناظرتها وأنا سعيد بكل لحظة فيها.. لكني أراني شخصا آخر.. يسكنه البؤس والشقاء.. والحزن يغلف نظراته..
هل "هو" أنا.. أم "أنا" هو.. أم كلانا شخصان جمعهما القدر في مكان واحد.. اجتمعا في صورة.. وتفرقا على ابتسامة..

أحمل دهشتي.. وأترك الشخص الغريب في صورته..

أترك الصورة في هيئة الشخص الغريب..

وأترك ابتسامتي.. عله يقاوم بها أحزانه..

في أستوديو التصوير التالي الذي دخلته.. قلت للمصور، وأنا أجلس على المقعد المخصص: أريد صورة تشبهني.


الأربعاء، 12 مارس 2014

على هذه الأرض ما يستحق الحياة ( 8 )


 أفتح ذراعي.. وأحضن موجة الريح القادمة نحوي.. أمتلئ بنسيمها، وأرسل بصري للبعيد.. أعانق الصورة بكل تفاصيلها وملامحها.. أتنفس بعمق، أتأكد أن النسيم هنا، ليس كأي هواء في مكان آخر.. في أنفاسه رائحة المجد، والصمود، وفي عبقه حكايات العزة والإباء.. وبين شذراته أمل قادم، يمسح الدمع عن المدينة، ويعيد البسمة إليها بعد حزن طويل.
أقف الآن على مشارف القدس، متكئا على سور صغير يحيط بربوة، تطل على الحرم الشريف، وعلى المدينة القديمة، والمقبرة اليهودية، أستعيد الحلم الذي قذفني إلى هذا المكان، وأغبط نفسي على هذه اللحظة التاريخية في حياتي، وحدها هذه الساعة من تمنيت أن أكون أنا، لا أحد سواي، أستشعر كل التفاصيل الجميلة حولي، لتكون ذاكرة أركن إليها كلما أهتزت بي الحياة، وشقتني الأيام..
كل هذا الضوء لي ..
أمشي؛ أخف؛ أطير ثم أصير غيري في التجلي ..
لا شيء في الحياة يعادل أن تناظر حلما يتحقق أمام بصرك، وأنت جزء منه، تدخل بوابة الحلم الذي تدرك أنه عصي، لكنه ليس بمستحيل، الأيام وحدها قادرة على تحويل المستحيل إلى حقيقة، والحلم إلى واقع، وتأخذك في مدارات لا تعرف نهايتها، ثم تفتح لك بوابة في أقصى المسار، وحين تلج المكان، تجد حلمك يسكن هناك، ثم تسكن أنت إليه.
ماذا يمكن أن تقول في حضرة القدس !!.
وأي الكلمات تسع وصفك هذه اللحظة، وعلى أي التعابير تتوسد حروفك..
تحاول لملمة الصورة الماثلة أمامك، تصنع منها مشهدية الذكرى، وتحج إليها كلما اشتقت إلى هذا المكان، وحدثتك نفسك بالسفر إليه..
 

***

فرحا بشيء ما خفيٍّ، كان يحملني
علي آلاته الوتريِّة الإنشاد . يَصْقلني
ويصقلني كماس أَميرة شرقية
ما لم يغَنَّ الآن
في هذا الصباح
فلن يغَنٌي.


***

لم يكن صباحا اعتياديا في رام الله، فالفتية الذين جابوا البلاد الفلسطينية المحتلة، والذين ذرعوا نابلس وبيت لحم والخليل وأريحا وغيرها، الذين وقفوا على الحواجز الاسرائيلية، وانتظروا إذن الجندي الاسرائيلي للمرور إلى الجزء المشطور من الوطن الفلسطيني، الذين عايشوا حرق الزيتون، وهدم المنازل، وقتل العزل، الذين شاهدوا المأساة الفلسطينية بكل تفاصيلها، هم اليوم على موعد استثنائي، وفرح أكبر من قلوبهم يسكن بين الصدور..
كانت روزنامة الصباح تشير إلى أنه يوم الجمعة.. ولا يهم التاريخ التالي لذلك، وكان برنامج الزيارة يقول إن موعدهم القدس.. وليست القدس عنهم ببعيد، لكن الجندي الاسرائيلي حال بينها وبين من يشتهي زيارتها، ويتوق إلى الصلاة في حرمها الشريف..
لا يمكن أن تطأ أقدامك القدس، حتى لو كنت ابن هذه الأرض،
وعشت فيها ردحا طويلا من الزمن، ونبتت جذورك فيها، وتشعبت أغصانك، ولم تثمر بعيدا عنها، لن تزور المدينة، دون الحصول على تصريح الزيارة من المحتل، وتقف على الحواجز الحديدية، ويتم تفتيشك، وحتى إذلالك، وقد يؤذن لك بالدخول، وقد تعود أدراجك من حيث أتيت..
القدس.. هذا السجن الكبير، الذي يمارس الاحتلال فيه كل سطوته وجبروته وطغيانه، هذه التي يشرد أهلها، ويضايق سكانها، ويهدم منازلهم، ويقطع أوصالهم، تبقى عصية على الانهزام، والخضوع لإرادة المحتل، مرفوعة الرأس، شامخة.. صامدة.. راسخة كما أشجار الزيتون المحيطة بها، وأشجار اللوز السامقة.
كان الموعد إليها بعد الفجر مباشرة..
التقينا على مائدة الافطار كعادتنا، والشوق هذه المرة، يسبقنا إلى وجهتنا، كان الفرح يلون وجوه الرفاق، فيما الأسى والألم يغلف وجوه اصدقائنا الفلسطينيين الذين كانوا معنا في زيارتنا إلى المدن الفلسطينية، فأكثرهم محروم من زيارة مدينة القدس، كما حال أبو يزن هشام واصف الذي غادرنا في نابلس، ليرتاح إلى بلدته الصغيرة هناك.
كانت الحافلة التي وقفت قبالة الفندق ذلك الصباح، مختلفة عن الحافلة التي دأبت على أخذنا في جولاتنا السابقة، وكذلك كان السائق، الذي تأكد من وجودنا فردا فردا، وأكد على حملنا تصاريح دخول القدس، وجوازات السفر، ثم راح يذرع شوارع رام الله، حتى حاجز قلنديا..
كان جدار الفصل العنصري يحاذينا، ونحن نعبر في طريق ممتلئة بالناس والمركبات، في نقطة قريبة من الحاجز، قال لنا السائق إن علينا أن نترجل من الحافلة، ونمشي حتى الحاجز، وهناك ننهي إجراءات التفتيش والدخول، ونلتقي به في الطريق التالي..
كان جدار الفصل العنصري قريبا منا، يطاول بصرنا، ويفتح ذراعيه ليطوقنا من كل صوب، كان بشعا، لكن روح التحدي جعلته يحمل صور أبطال فلسطين ورموزها، وقادة المقاومة، وكلمات محمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان وتميم البرغوثي، وصورة القائد الرمز ياسر عرفات، والقائد الأسير مروان البرغوثي، وشعار حركة المقاومة الاسلامية "حماس" وحركة فتح، وفصائل فلسطينية واسماء الشهداء، كلها صنعت من الجدار العنصري ملحمة للصمود والتحدي..
كانت الجدران تستعصي على الفهم
وكان الأسبرين
يرجع الشبّاك والزيتون والحلم إلى أصحابه
كان الحنين لعبة تلهيك عن فهم السنين.


***

أقف قريبا من الجدار العنصري، أنظر للألم المرسوم عليه، الألم الناطق بالمأساة التي يعيشها الفلسطينيون في الضفة الغربية، مأساة تتعدى الوصف، كل الحكايات التي ستقال، لن تستطيع أن تنبض بالوجع الحقيقي الذي يسببه هذا الجدار البغيض، ليتعدى من مجرد حصار وخنق إلى كونه سداً في طريق الحلم ومخالفة صريحة لحق الانسان في الحياة.
أريد أن أسطر كلماتي على الجدار، أود أن أرسم الحروف التي تصارعني لتنهش هذا المارد الجاثم على صدر الانسان الفلسطيني، لكن سائقنا ومرافقنا إلى القدس، يقول إن علينا ان نسرع للوصول إلى الحاجز، أنظر إلى صورة الشهيد ياسر عرفات التي طبعت على الجدار، وهو يرفع اشارة النصر، أسمع لحظتها عبارته الخالدة: إن شاء الله سنصلي سويًا في القدس الشريف، شاء من شاء، وأبى من أبى.
وصورتك محفورة في القلب، نحملها معنا إلى القدس، سنصلي سويا أيها القائد، أنت في عليائك هناك، ونحن هنا، تتلاقى أرواحنا، وتسبح بحمد الله، وتدعو لخلاص أولى القبلتين وثالث الحرمين من براثن اليهود المعتدين، وكلماتك ترن في اسماعنا، تصعد بنا نحو الصخرة المباركة، قريبا من الأقصى، نتأمل جموع المصلين التي ملأت الساحة الفسيحة، ونندس بينهم، نبتهل في الصلوات، وأرواحنا معلقة في قناديل تتأرجح داخل المسجد.
أرفع جبهتي، رغم الانكسار الذي يسكنني، أرى حنظلة يدون حكايته على الجدار، هنا صاحبه ناجي العلي، ومحمود درويش، وياسر عرفات وجيفارا وحكاية الثورة الفلسطينية التي لن تهدأ، ولن تستكين طالما بقي شبر في الأرض الفلسطينية محتلا..
طفل يكتب فوق جدار
طفل ... نبتت بين أصابعه النار
أيتها الخوذات البيضاء حذار
من طفل نبتت بين أصابعه النار
من طفل يكتب فوق جدار
يكتب بعض الاحجار
وبعض الأشجار
وبعض الأشعار.
نقترب من الحاجز، نتأكد من أوراق العبور، وجوازات السفر، نتأكد من مشاعرنا أن لا تنفرط في هذا المكان، فترد خاسرة، نقف خلف حاجز حديدي متشابك القضبان يفتح ويغلق بشكل آلي، عوض باقوير.. مصطفى أحمد.. عاصم الشيدي.. حاتم الطائي.. حمود الطوقي والبقية، نتوالى على الدخول لنقف أمام المجند الإسرائيلي وهو ينظر إلينا الواحد تلو الآخر، من خلف نافذة زجاجية، ويتأمل إذن العبور، وجواز السفر، ثم يتلكأ في ختم الورقة، ويطرح أسئلة من قبيل، من أين أنتم، وما طبيعة زيارتكم، هل تحمل أي سلاح؟، ثم يعيد النظر في صورة الجواز، وإلى صورتنا، ويقلب الجواز ورقة ورقة.. وبعدها، يتم تحويل من يريد استفزازه أكثر، إلى الغرفة المجاورة، وهناك يتولى جنود آخرون التحقيق في هوية العابر، ومن أين هو، وما تاريخ ميلاده، وجنسيته، وطبيعة زيارته، رغم أن ذلك مشار إليه في إذن العبور.. ولكنها المهانة التي علينا أن نتقبلها طالما أننا بهذا الضعف.
يدخل عوض باقوير أولا، ينظر إليه جندي الاحتلال، فيقرر تحويله، إلى الغرفة المجاورة للتحقق من شخصيته، بعد زمن تجاوز العشر دقائق، يخرج عوض، وتفتح البوابة لشخص آخر منا، خمس دقائق، ثم ثالث وهكذا.
يتسلى الجندي الإسرائيلي، وهو يمارس سطوته في الحواجز، وهو يعرف كما الذين وضعوه في هذا المكان، إنها تثير سخط وحفيظة الفلسطينيين والعرب الذين يقفون طوابير طويلة، بانتظار إذن العبور، ويعرفون كم الغضب الذي يسكن النفوس، وهي تقف خلف القضبان، تكتم غيظها، حتى لا يتعكر مزاج الجنود، فيغلقون البوابة، ويمنعون العبور.
أخبرنا عوض أن الوشاح الفلسطيني الذي لبسه، كان سببا في توقيفه فترة طويلة واستفزازه بالاسئلة.. كان الجنود يريدون طمس الهوية، حتى من الأوشحة التي نعلقها، ومن الكلمات التي ننطقها، كانت دولتهم المحتلة تريد محو الدولة الفلسطينية من الوجود، ولذلك يتفننون في ابتكار أساليب التعذيب والاستفزاز بحق كل من يحمل شعارا أو خارطة فلسطين، أو أي رائحة منها، ولو استطاعوا سبيلا لنزع اسمها من صدورنا، لفعلوا ذلك.
عدنا للحافلة نشق الطريق إلى القدس، والأوشحة التي خبأناها عن عيون الاحتلال، عادت لتزين جيادنا، ونغني معا:
يا أطفال بابل
يا مواليد السلاسل
ستعودون إلى القدس قريبا
وقريبا تكبرون
وقريبا تحصدون القمح من ذاكرة الماضي.


***

دون الحاجة إلى قراءة التاريخ، والنبش في صفحاته، كنا على يقين أننا ضيعنا الطريق إلى القدس، وأننا سلكنا مسارا آخر لتحرير فلسطين، يمر باشعال الفتن، والتآمر على بعضنا البعض، ونشر الفوضى والدمار في البلاد العربية، الجيوش العربية ضلت الطريق إلى فلسطين، وتوجهت باسلحتها إلى صدر المواطن العربي الذي طالب بالحرية والكرامة على أرضه، لم تعد فلسطين القضية الكبرى للأنظمة العربية، أصبحت مع الثورات العربية ـ بكل المسميات التي تحملها، أو الأسباب التي دعت إلى قيامها ـ نسيا منسيا.
نأخذ الطريق إلى القدس، الطريق التي سجلت حضورها في التاريخ، هنا سار من قبلنا قادة كبار، وتحركت جيوش جرارة، على هذه الدروب نزح مئات الآلاف من الفلسطينيين بعد طردهم من أرضهم وديارهم إبان نكبة 1948، وهنا كتبت الأرض عشرات المجازر والفظائع وأعمال النهب وهدم القرى وتدمير المدن وتحويلها إلى مدن يهودية.
يشق الطريق منطقة القدس شمالاً بطول يصل حوالي (9 كم) ويلحق أضرارا فادحة بضاحية بيت حنينا الواقعة إلى الشمال على طريق القدس ـ رام الله حيث يبدأ الطريق الالتفافي السريع رقم 60 من القدس لينتهي إلى الجنوب الغربي من رام الله عابرًا أراضي قرى بير نبالا وجديرة ورافات ويربط راموت والمستعمرات المجاورة بالقدس.
كنا نسير والمستعمرات الاسرائيلية تتوالى في طريقنا بمسمياتها البغيضة، تلتهم الأرض والهوية وتطمس التاريخ الفلسطيني، لتكتب تاريخا مشوها، وأحداثا مزيفة، تنتصر لفكرة دولة الاحتلال، كنت أوزع النظرات يمنة ويسرة، فهناك مستعمرات محصنة، أقيمت وفق نظام هندسي يحاكي المعمار الأوروبي، وهنا عشوائيات يقطنها من بقي متشبثا على أرضه، وما بينهما بون شاسع، لكن مع ذلك يظل من بقي في القدس الأسعد حالا عمن توزع بين الشتات.
كانت اللافتات تشير إلى أننا في "أورشاليم"، وأن إسرائيل أحكمت قبضتها على المدينة المقدسة وما حولها، وغيرت امتدادها من شرق غرب إلى شمال جنوب, واستكملت سيطرتها على المواقع الأثرية والحضارية العربية المحيطة بالقدس والخليل وبيت لحم، وأصبحت التلال الأثرية التي تقع شمال القدس باتجاه رام الله ذات موروث ثقافي يهودي، وهذا برز في (تل الفول) وتل النصبة والنبي صموئيل، وخرب كثيرة تقع في أراضي قرية عناتا وحزما وقرى العيزرية وأبو ديس والزعيم بالإضافة إلى موقع مستعمرة معاليه أدوميم التي في الأصل تعرف باسم دير المرصرص والذي كان ديرًا قائما في تلك المنطقة، في العصر البيزنطي.
نقترب من هوى الفؤاد، نعبر قريبا من الجامعة العبرية، فمستشفى هداسا، يحدثنا مرافقنا عن التقدم التقني والعلمي والطبي لإسرائيل، ويسرد تاريخ الجامعة العبرية وأبرز من تخرج منها، لا أهتم للحديث، فما أقيم على باطل فهو باطل، لا أخفي شعوري في تلك اللحظة أنني تمنيت أن تزول هذه الجامعة من الوجود، وأن يختفي المستشفى معها، فهذه الأرض عربية فلسطينية، وستكون كذلك شاء من شاء وأبى من أبى.
نتوقف برهة من الزمن لزيارة مستشفى المقاصد الذي أقامته جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية على جبل الزيتون، هذا المستشفى الخيري الذي يعتبر قلعة وطنية شامخة، يقدم خدماته الطبية إلى جميع أبناء الشعب الفلسطيني دون تمييز سواء أكانوا من قطاع غزة أو من الضفة الغربية أو من القدس الشريف منذ عام 1968م.
من شرفة في الطابق الثاني في جناح التنويم في مستشفى المقاصد، أناظر المسجد الأقصى وما حوله، الآن بات حلم الصلاة فيه أقرب من حبل الوريد.

للحكاية بقية


أقرأ :