الاثنين، 1 مايو 2006

الأبراج تسـقـط غــدرا



برج باب الصبخة قبل الهدم

برج باب الصبخة بعد هدمه بفعل متعمد


في رثاء برج  باب الصبخة بنزوى




( 1 )
حينما كنت شامخا.. عالي الهمة.. متقد البنيان.. كنت أمرق قبالتك.. وأحلق ببصري عاليا.. أراقب كبريائك.. لم يزحزحك أحد من مكانك.. رغم صروف الزمن.. كنت هناك، سامقا.. وكنت أنا بجنبك أقرأ في كتاب التاريخ عن الذين حرسوا المدينة وبنوا مجدها، وشيدوا حضاراتها.. كنت أقرأ عليك بعضاً من تاريخك الذي تعرفه أكثر مني.. وأعيدك إلى أيام ما نسيت شيئا منها.. ولا جهلت معالمها وشخوصها..
لا أدري لماذا كنت أستعذب القراءة بحضرتك.. وأقلب صفحاتي أمامك.. ويحلو لي المرور جهتك.. ألأنك رمز البقاء؟!.. أم لأن ثمة روح بداخلك تنبض بالحياة والتمسك بالأمل؟!.. أم لأنك صديق حميم قريب من العابرين.. المارين في طرقات المدينة.. السالكين دروبها.. يبتغون جهات عدة كلها تلتقي عند موطئ شموخك.. يعبرون الطرقات.. يجرون خطاهم مهلا وسراعا.. لكنهم حينما يصلون إلى مكانك.. يمهلون الخطى.. وينهلون بعض أمل.. بعض حياة تقذفها نحوهم.. ينتشون بمعاني الصمود.. ثم يسرعون الخطى من جديد.. تأخذهم الجهات في دروب لا نهاية لها.. ألكل هذا؟!.. أم لشيء خفي أجهله.. وتخفيه أنت؟!..
أقرأ أمامك.. وأقرأ.. وأنت ضاحك مستبشر كما هي عادتك من قبل.. كما عرفتك مذ زمن.. ما زلت في مكانك شامخا.. عالي الهمة.. متقد العزيمة.. قوي البنيان..
( 2 )
حينما كنت شامخا.. عالي الهمة.. كنت المقصد الدال على ما حولك.. علم يستدل به.. للذين لا يعرفون الجهات الأربعة في دروبك.. للحائرين الهائمين على وجوههم في طرقات المدينة.. يبتغون مخرجا.. أو مدخلا.. يفضون إليه.. كنت وحدك تقود مسالكهم.. وتأخذ حيرتهم..
حينما يتراءى من البعيد بنيانك.. ويلوح رسمك.. وتعرف دلالتك.. تضم الحيارى والهائمين إلى صدرك.. تسكب عليهم بعض حنانك.. تخفف عنهم أحزان الضياع في متاهات المدينة.. تقذف في أفئدتهم نشوة الحياة.. وأمل الوصول.. لتبزغ البسمة في قلوبهم.. وتتفتح الدروب والطرقات في مسالكهم.. وتلوح نخيل البساتين.. ومياه الأودية.. وشخوص تأتي وتروح بكرة وعشيا.. يأمون جهتك.. وينثرون سلامهم.. قبل ان يعاودوا الرحيل من جديد..


( 3 )
بركة أنت في مكانك ذاك.. حينما كنت في مكانك ذاك..
بركة كما السماء تقذف خيراتها لتحيي الأرض بعد موتها.. وتخرج البساتين ثمارها..
بركة حينما ينام من حولك وتسهر تحرسهم.. وتبعث إلى مناماتهم الدفء والامان..
بركة تلون المدينة.. وتوسم عزها ومجدها..
عندك تلتقي الدروب.. ومن مقامك تتوزع الجهات.. وعند بنيانك تكتب سيرورة العودة والرحيل..
أيها الشامخ في الصورة.. ماذا فعلوا ببركاتك.. والى أي مصير أزفوها؟؟.

( 4 )
آتيك ذات الصباح.. أمني نفسي بنشوة الحياة.. بالأمل الذي تبعثه سكينتك.. بوقار الصمت.. برائحة الأمس.. وبالصفحات العتيقة المضرجة بمداد الماضي.. بالذكريات الجميلة المنبسطة على ترابك.. آتيك وكلي شوق لمعانقتك.. والجلوس قبالتك.. أعيد قراءة كتاب التاريخ على مسامعك.. واستعيد طفولتي الحائرة..  أشحذ همتي، وأوقف عقارب ساعتي كي أطيل الجلوس قربك.. وأحلق في سمائك.. لا شئ سيأخذني منك هذه المرة.. لا مكان آخر.. ولا زمن تالي..
آتيك أنا المتقد شوقا لمرآك.. الممتلئ عشقا لترابك.. ثم في لحظة زمن سريعة.. أثب مصعوقا في مكاني.. مصدوما من اللحظة التالية التي اسبر خطاها.. حيث لا إشارة ولا دلالة على وجودك.. لا عبق يحلق بي لسمائك.. لا أرض تقلني.. بعدما هوى بنيانك.. وأحيلت أرضك إلى ضريح.. وشموخك صار انكسارا.. وحياتك بكاء وعويلا..
أيها الشامخ من زمن.. الساكن مهجة قلبي وكياني.. المرفرف في سماوات المجد.. من باعك إثما هنا؟.. من قتلك غدرا؟.. من هدم بنيانك؟.. من مزق صفحاتك؟.. من أحال تاريخك إلى العدم؟..

( 5 )
ألمحك والدمعة تنساح على مقلتيك.. تستنجد المارة.. تستجدي الذين زرعت في قلوبهم الأمل.. وبثثت في أفئدتهم الحياة.. الذين أيقظت في ذاتهم الهمة والعزيمة.. والذين تعلموا منك الكبرياء والشموخ.. لكن يمرون عليك سراعا.. كأنهم إلى خطب يوفضون.. لا تستوقفهم عبراتك.. ولا يهزهم بكائك.. وكتاب التاريخ الذي كنت تقرأه على مسامعي ملقى على قارعة الطريق.. كما الحجارة المتبقية من بنيانك.. لا شيئ يستوقف المارة الآن.. لا شئ.. غير ثمة حكمة ضالة تتداول.. الحي أبقى من الميت..
أيها الشامخ من زمن.. هل كنت ميت وكانوا أحياء؟.. هل كنت حجارة وكانوا قلوبا وأحاسيس؟.. هل كنت جمادا وكانوا روحا ومشاعر؟.. فلماذا ترحل أنت ليبنوا على مقامك مجدهم الزائل وبنيانهم الآئل إلى زوال.. لماذا ترحل وهم باقون؟.

( 6 )
لم يقل لي أحد لماذا هدم برج باب الصبخة عن سبق إصرار وترصد؟.. لم يقل لي أحد ايضا لماذا حملوا حجارته والقوها بعيدا.. ثم أعادوا رسم مكانه بتاريخ زائل.. واثر لا قيمة له؟..
ربما الذين فعلوا ذلك خلسة.. لا يعرفون قيمته.. كما لا يعون معنى ان تسكن مدينتنا ابراج واسوار مثل برج غوير وبرج بستان قسام وبرج الصراجية وبرج حارة الوادي وبرج الشجبي وبرج محلة السويق وبرج ردة الكنود وبرج... يبدو أنهم سئموا رؤية الأبراج لدينا.. هذه التي تحيلنا إلى تاريخ ما عدنا نحفظ من صفحاته غير القليل.. ولا ندرك من شخوصه غير العابرين سريعا في صفحاتنا.. المارقين دون دمعة تنزاح على المجد المتواري خلف حجارة صارت صماء.. بكماء.. خرساء.. لا تنطق حتى لو تهاوى بنيانها.. وأنكسر شموخها.. وأندثر رسمها.. ولم يبق منها باقية..
كان برج باب الصبخة وهو يعطي المدينة جمالياتها.. صورة مزدانة بعبق التاريخ واصالته.. بالصفحات المجيدة التي كتبت هاهنا.. بالأمكنة الضاربة الجذور.. المتقاسمة مع المدينة تاريخها.. كان البرج وهو يشمخ ببنيانه فوق هاماتنا يبعث في ذاتنا الدفء والامان.. كما كان في زمن بعيد.. كان نبراسا لنا.. كان هدى للحائرين والتائهين.. كان.. وكان..
لكن كينونته تلك أحيلت إلى العدم.. وانضوى إلى ركن قصي كما الحجارة المتساقطة من بنيانه.. ما عاد وجوده ذا أهمية للذين جهلوا التاريخ.. ونسوا حضارة ومجد المكان.. باعوا أرضه بعدما حملوا أشلاءه/ حجارته بعيدا.. بثمن بخس.. ريالات معدودة.. لا تساوي ذرة من ترابه.. ثم بعد حين شيدوا بنيانهم.. على أنقاضه..

( 7 )
أي جريمة هذه التي ترتكب بحق تاريخ الأجداد.. بحق حضارتنا.. هل يمكن السكوت عن مثل هكذا جرم.. والتغاضي عن هكذا فعل ينتهك مآثرنا وآثارنا.. فالذين باعوا برج باب الصبخة ذات يوم.. والذين هدموا بنيانه.. قد يبيعون الشهباء وما حولها من الآثار.. وقد يحيلون ما تبقى لنا من أبراج إلى العدم.. ويمزقون صفحات تاريخنا.. فهل نسكت؟.
هل نسكت؟  !

نزوى ـ في 1 مايو 2006