عـن سلاموه أحدثك
لو سألت أي أحد في حارتنا عن سلاموه،
لأشار جهة بيت بعد مدخل الحارة بعدة بيوت، يرتفع لطابقين، ويتقارب مع الدور الأخرى
في معماره وهيئته، لن تجد أي اختلاف بينه وبين المنازل الطينية المحيطة، ولا يمكن
للرائي أن يلمس أي فروقات تميزه أو تغيره عما حوله..
ولن تحتاج للسؤال عن سلاموه وما تكون
بالنسبة لأهالي الحارة، وكيف تشكل حياتهم وتصيرها.. في الشدة والرخاء.. في المصائب
والأفراح.. فالجواب سيأتيك منقادا، يجر بعضه بعضا، ويحدثك عن حكايات وقصص عايشها
ابناء الحارة، واقتربوا منها كما ستقترب منهم حين تلج إلى حارتنا.. وتلثمك أنفاسها..
***
حارتنا ليست مختلفة عن باقي الحارات،
هي مجموعة بيوت
تمتد على طريق صغير تحيط به ذات اليمين وذات الشمال، والطريق باسط
راحتيه، ممتدا إلى الداخل حيث بستان الحارة، كما اصطلحنا على تسميته، وهو الآخر
ليس بذات الاتساع، غير أنه يشكل بالنسبة للحارة مساحة خضراء يقذفنا بروائح النخيل
وثمار بضع أشجار تتناثر في جنباته، وفي المنتصف حوض الماء الذي يسقي الأشجار، ولنا
فيه مآرب أخرى.
حدود البستان من الجهة الشمالية
الشرقية.. هي حدود الحارة، ويمكن أن ترى السور المحيط بالحارة يرتفع مجاورا للنخل،
ومعانقا لشموخها، كنا نقعد قريبا منه، دون أن ندري كينونة ما يفصلنا هذ السور عنه،
وما يحجبه عن أنظارنا، ويمنعنا عنه، نتداول في الأقاويل والأحاديث الباحثة في السر
المكنون للسور المحيط بحارتنا من كل صوب.
ولأن السور يحيط بنا.. غير من بوابة
مشرعة تفتح كل صباح وتغلق كل مساء، فإن القادم إلينا لا بد أن يكون ذا غرض أو حاجة
معينة، نحن في الحارة نعرف الغريب، ونتابعه بأعيننا حتى يصل إلى مبتغاه، يسألنا عن
ساكن في الحارة، أو حاجة له، نقضيها، أو يعود من حيث جاء، تشيعه النظرات دون سلام
أو وداع.
لحارتنا أسرار كثيرة، وحكايات مدسوسة،
لا نقوى الخوض في تفاصيلها، وربما يعود ذلك بحكم أعمارنا الصغيرة، التي تقف حاجزا
بيننا وبين الخوض في هذه الأحاديث، غير أن الكبار يتداولونها في مجالسهم ولقاءاتهم،
ويتعرضون لها بكرة وعشيا، يتحدثون عما هو خارج السور، وعن أناس لا نعرف سيماهم من أسمائهم.
لحارتنا طقوس فريدة، نتعرف بها على
مواقيت العام، وفصوله، نعرف إقبال شهر رمضان مثلا من إدباره، والعيد الصغير من
الكبير، ونعرف متى يحل القيظ، وتؤتي النخلة رطبها، وتجود الأشجار بثمارها.
في الصيف نقوم بتخزين ثمار السفرجل في
سرادق ومخابئ تحت الأرض، نحفرها بمواصفات خاصة، لتكون باردة، تحمي ثمار الفاكهة من
التلف، وكأننا في واد النمل، نسوق الغذاء، ليكون مخزوننا للشتاء، وحين يأتي
الصقيع، يختفي المخزون وتتوه أسئلتنا حول كينونة الفاعل.
حارتنا تتسع كثيرا، لتضيق أكثر،
والأبواب مشرعة لحكاية واحدة تتداول كل يوم بشكل جديد، حكايتنا نحن، أبناء الحارة،
ومشاكساتنا لبعضنا البعض.
تفاصيل وحكايات كثيرة تتمخض عن
حارتنا، تنبش جزءا منا، وتعري حياتنا.. بحلوها ومرها.. بفرحها وحزنها.. بسعادة أيامها
وتعاستها، لم نكن بمعزل عما يجري في الحارات المجاورة، لكن طعم الحكاية في حارتنا
له مذاق مختلف، له اشتهاء القيظ حينما نحزم أمتعتنا، ونأخذ بعض ذاكرتنا، نحملها
للمزارع، حيث تتدلى أجساد الرجال من قمم النخيل، وتتقاذف نحونا التمرات، نبحث عنها
بين الحشائش، لنجمعها في سلال صغيرة، ويكون أوفرنا جمعا.. أكثرنا حظوة.
***
حدثتك عن حارتي.. ونسيت أن أحدثك عن
سلاموه، وأنت
تسألني عنها، وتحاول تغيير مجرى الحكاية نحوها، لكن حكايتها ليست أهم
من حكاية بستان الحارة، إنه منبع الحكايات بالنسبة لنا نحن الصغار، فيه نستقي
أخبار الحارة وأحداثها، ونرقب كل جديد من خلال جلسات تمتد حتى المغيب بين نخيل
البستان.
لم نكن نمارس أكثر من الحديث، وتقاذف
الكلمات في كل صوب، نحكي حكاياتنا، ونسرد قصصا سمعناها وتآلفنا معها، نتناقلها كما
الرواة من ألسن أهالينا، لنكتشف أننا جميعا نحفظ ذات الحكاية ونعرف تفاصيلها،
فنطلق ضحكات على بلاهتنا، من تصور حكاية تخرج من أحد المنازل، دون أن يكشف قناعها
أحد، أو تدلف لبيت آخر، تلوكها الألسن، بكرة وعشيا.
ذات ليلة أسر أبو سالم لزوجته بنيته
تزويج ابنه سالم عما قريب، كان الخبر في الصباح منتشرا، تتقاذفه الأحاديث، دون أن
يكون له مصدر محدد.
كنا في البستان حينما قالت مريم،
الفتاة الأكثر نضجا بيننا، إنها تتمنى أن تكون الفتاة التي يختارها سالم، قرأنا في
عينيها أمارات الحب، وراحت تحدثنا عن أسرارها، وتتقافز كفراشة بين الزهور.
لم نكد نخرج من البستان، حتى كانت
الويلات واللعنات تطاردنا، حين سمحنا لمريم أن تكشف أحلامها وتقول عن مكنون ذاتها،
وتسرد مشاعرها وأحاسيسها، كان الحب بلغة الحارة محرما، وجريمة تستوجب أشد النكال،
وقد طال ذلك مريم.
في اليوم الثاني لم تأت إلى البستان،
ولم نلمحها في طرقات الحارة.. وتوارت حكايتها، وآلت فصول عشقها لسالم إلى النسيان،
لولا أن تداركتها حكاية بزغت فصولها ذات يوم، حينما تناقلت حارتنا خبر مريم التي
دخلت البستان، فأكلها الذئب، لم يعرف أحد من يكون هذا الذئب.. ولا محله من الحارة
أو الحارات الأخرى.
قال بعض أهالي الحارة إن مريم هي التي
تعرضت للذئب وأغوته، وإنها ليست المرة الأولى التي تعطي مريم جسدها للذئاب.. يومها
تحولت حارتنا وقد جاست فيها الذئاب تنهش مريم وتأكل لحمها حية.
في تالي الأيام رحلت أسرة مريم، حملت
فضيحتها، وغادرت إلى حارة لا يعرف لها طريق، تلاشت حكاية مريم، وبقيت حكاية
الذئب..
***
ولا تغيب سلاموه عن حكاياتنا، هي
عالقة في كل نفس يواتينا، نمر عليها بكرة وأصيلا، نلقي التحية عليها حينا، ونمر
عليها صمتا كثيرا، لم يفكر أحد منا، من تكون سلاموه، وما الذي جاء بها إلى حارتنا،
ولماذا استوطنت هذه الغرفة الضيقة من البيت الفسيح.. البيت الذي لن يغلبني في روي
تفاصيله، وسرد محتوياته، يمكنني أن أقول لك عن كل ساكن في هذا البيت، وأحكي لك
قصته من يوم مولده، أو إلى ذلك أقرب..
ولن تسألني عن البيت وساكنيه، فالذي
أتى بك إلى حارتنا، وحدها سلاموه، وليس ساكن آخر، لكنني لا أود أن اقول لك عنها
دون أن أحكي لك شيئا عن حارتنا.. معالمها وملامحها.. بيوتها ومساكنها..
تبدأ حارتنا من الجهة الشرقية، حيث
يمتد السور لتكشف
بوابته، عن منازل متحاذية، تشد بعضها بعضا، وتتعاضد مجتمعة
تقارع السقوط، والانهيار.
هنا مسجد الحارة، يفضي إليه باب واحد،
يتخلله سلم للصعود إلى ساحته، التي تحوي مكان الوضوء، وقبالتها تبدو قاعة الصلاة،
ويمكن الدخول إليها من بابين، وهي مزدانة بالعقود والنقوش الزخرفية، تتخللها آيات
قرآنية بخطوط بديعة..
لو دخلت المسجد لأول مرة، ستنصرف عن
الصلاة بالتأمل في النقوش والزخارف، ولشغلك ذلك عن الخشوع، وتذكر القراءة
والركعات.
لم أقل لك بعد من سلاموه، أخذتني
الحارة وتفاصيلها، ابتعدت كثيرا عنها، لكن الأحداث تدور، لتأتي عندها، في البقعة
التي تسكنها، حيث ينتصب منزلنا شاهدا على حكاية سلاموه، وبركاتها علينا وعلى أهل
الحارة ومن حولهم أجمعين.
في كل صباح ألمح أمي تدخل الغرفة التي
تسكنها سلاموه، ثم تخرج بعد ساعة زمن، لتكمل أعمال المنزل، لم أدر ما تقوم به أمي
في هذه الساعة، ومأربها من دخول غرفة محرمة علينا جميعا..
كانت أمي قبل دخولها إلى الغرفة تحوقل
وتسبح الله تعالى، ثم تدخل الغرفة وتغلق الباب على نفسها، أما والدي فكان ينظر
للأمر بصورة اعتيادية، وكأن شيئا لم يكن أمام ناظره، أو كأنه يدري ما تقوم به أمي
في حضرة سلاموه، وفي مسكنها، كل مرة يغادرنا فيها أراه يسكب دهن العود على الشرفة
الخارجية للغرفة، والمطلة على الطريق، الشرفة التي تحاذي باب دارنا من الجهة
الشمالية، والتي ترتفع على مرمى أبصارنا.
تأتي الوافدات إلى سلاموه، فيلقين
عليها السلام، ويسكبن عطور العود ويوقدن البخور، لتتصاعد الروائح في المكان، ثم
يضعن المجمر قريبا من الشرفة، وينثرن حوله الصندل والمحلب والعنبر وعطور مختلفة
الألوان والروائح.. وقريبا من المجمر، تلقين التمائم والتعاويذ، ويطلبن البركة، من
سلاموه..
وستسألني مرة أخرى عنها، أنا الذي
بدأت أسرد عليك حكايتها، ونسيت أن أكمل لك قصة الحارة.. ومساكنها.
على محاذاتنا.. من جهة غرفة سلاموه ـ
كما نطلق عليها، لنؤكد انفصالها عن المنزل وقاطنيه ـ يقع منزل العم مسعود، الرجل
الذي يهرع إليه جميع الأطفال حال مشاهدته، كان العم مسعود يحمل السكاكر والحلويات،
يوزعها على الأطفال الذين يلتقيهم، فتتلقفها أياديهم بالفرح والسرور..
قريبا من منزل العم مسعود يسكن منصور
أخو البيدار، ومن ثم تنعرج الطريق لتصلك إلى بيت عائشة أم البنين، ثم بيت ود
النحاس، حتى بيت المعلم جمعة، وأخيرا بستان الحارة..
***
يتحدث كثير ممن زارنا، إننا محظوظون
جدا في حارتنا، فلدينا
المسجد، ولدينا البستان، ولدينا المدرسة، وقد نسيت أن أحدثك
عن مدرسة القرآن الواقعة على أطراف حارتنا، من الجهة الشرقية، قريبا من الطريق
المفضية إلى المسجد، وبمحاذاة منزل المعلمة جوخة.
في كل صباح نحمل الكراريس الملفوفة في
أقمشة خضراء، تطرز بنقوش، تبدع أمهاتنا في خياطتها.
تجلس المعلمة جوخة، وهي تتأمل الصغار،
من الأولاد والبنات، ثم تشير إليهم بعصاها الغليظة لبدء القراءة، فتنطلق الأصوات
من كل جانب، وهي تتلو سور الكراس، من سورة الناس وحتى سورة عم.
لا نعرف كيف يمكن للمعلمة أن تستمع
لكل هذه القراءات مرة واحدة، وكيف يمكنها أن تصوب أخطاء القراءة، كل ما نعرفه أنها
تتمتع بحاسة سمع قوية، تتيح لها سماع همسات الأولاد في حين يعلو صوت أحدهم بقراءة
سورته.
قرأت أمام المعلمة جوخة، سورة الناس،
بعدما أتممت القاعدة البغدادية، وعرفت تهجئة الحروف، وبعد سورة الناس مررت على سور
الفلق والإخلاص والمسد، حتى وصلت إلى سورة عبس.
وحين قرأت أمامها، أواخر سورة النبأ،
قالت لي وهي تفاخر بي بين أقراني الأولاد، بارك الله فيك، غدا أحضر معك الختمة،
عدت ذلك اليوم مزهوا للبيت، وبشرت أمي بقول المعلمة، انتقت أمي لي ختمة حديثة،
وجمرتها، ثم وضعتها في بخشة خضراء زاهية، ووضعتها في الرف، وهي تشير أن الختمة
جاهزة.
لمحت أمي بعدئذ، وهي تشعل الجمر، ثم
تضعه في المجمر، وبعدئذ حملت مكبة البخور، ونزلت إلى غرفة سلاموه، ودخلت هناك،
وأغلقت الباب.
كانت روائح العطور والبخور تفوح من الفتحات
الصغيرة للباب الخشبي لغرفة سلاموه، انتظرت حتى خرجت أمي وأغلقت الباب من الخارج
بالقفل، وقالت لي إنها قدمت بركات اتمامي جزء عم لسلاموه، ونذرت لي.
لأول مرة، أسمع أمي تتحدث عن سلاموه،
وعن النذر أمامها.
أعرف شوقك لمعرفة من تكون سلاموه هذه،
وما النذر الذي قامت به أمي أمامها.
كنت مثلك حينها، حائرا عن سلاموه، ومن
تكون.
لماذا هي حاضرة في أحاديث النساء
وحدهن، دون الرجال، لم أسمع والدي يوما يتحدث عن سلاموه، وهي التي تستوطن غرفة بأكملها
من غرف الدار.
كان والدي أحوج ما يكون لهذه الغرفة،
والتوسع بها بين غرف الدار، كنا ـ أنا وأخواني الخمسة ـ نتكوم في مكان واحد قريبا
من منام أمي وأبي، لم يكن لأي منهما مكانه الخاص، ففي ذات الركن الذي تضع أمي
ملابسها يعلق والدي ملابسه على وتد خشبي، بعضها فوق بعض، وقريبا من هذا الوتد،
أعلق أنا ملابسي.
كان الوتد، مثقلا بالملابس التي تعلق
عليه، كلما خف من حمل، زاد حمل آخر.
لو لم تكن سلاموه، تستوطن وحدها غرفة
عرضها مدرسة القرآن، وطولها طريق يحتوينا ساحة الظهيرة، لما اغتظنا وسخطنا عليها،
من تكون هذه التي تختار أجمل وأوسع غرفنا لتعيش فيها وحدها، فيما نحن نتزاحم على
مكان ضيق في غرفة صغيرة.
لم أقل لك مكان غرفة سلاموه، من
دارنا.
وأنت داخل على الدار من الجهة اليمنى،
يصادفك سلم يفضي بك إلى الدور الأول، في الدرجة الثالثة من السلم، تكمن الغرفة
بابها خشبي بنقوش جميلة، مغلق باستمرار بقفل حديدي كبير، وحدها أمي من يملك
مفاتيحه.
هذه الغرفة لم أر أحد يدخلها غير أمي،
كانت تدخلها فتغلق الباب عليها، ثم تخرج، وتعيد الغلق مرة أخرى.
كان عليّ أن أعيش زمنا حتى أعرف ماهية
هذه الغرفة، وحقيقة سلاموه التي ظلت تعيش في الدار حتى يوم انتقلنا منه، في
ترحالنا الصيفي.
***
ماتت عائشة أم البنين، وقبلها ماتت
موزة بنت ناصر، وماتت نصراء بنت سعود، وستطول القائمة يوما لتشمل كل نساء الحارة
وحتى رجالها.. صغارها وكبارها.
ماتت عائشة أم البنين، ومشينا صغارا
وكبارا في جنازتها، لمحت ولدها جمعة في الحشد الجنائزي، كان يبكي بحرقة، ويمشي
متثاقل الخطى، لا تكاد قدماه تحمله إلى المقابر، وهو الذي ساقته ذات مرة إلى هنا
في جنازة والده.
مسكين جمعة من سيكون له بعد رحيل أمه،
وكيف ستمضي بهم الحياة، بعدما صاروا أيتاما بلا أم ولا أب، ولا سند يحميهم.
سمعت والدي يتحدث إلى ود منصور، وهو
يقول إن الله وحده سيتكفل برعاية جمعة وأخوانه، ولن يضيعهم.. وسيمتد خير "المرحومة
وبركتها" إلى ابنائها، وابنائهم من بعدهم.
في العزاء الذي أقيم في مسجد الحارة،
كان الجميع يتقبل التعازي في الفقيدة، لمحت ود منصور وهو يستقبل المعزين ويودعهم،
وكأنه صاحب العزاء، كان الحزن والأسى باديين على وجوه الجميع.
كان من بين المعزين، رجال غرباء، وقفوا
إلى جانب جمعة وإخوانه، ولازموهم، وحين سألت والدي عنهم، قال إنهم أقارب المرحومة،
وأنهم ينوون أخذ الأولاد للعيش معهم.
سألت جمعة في لقائي التالي به، عن
رأيه في الأمر، فصمت، وقال إنه وإخوانه لا يريدون أكثر من العيش الكريم، كما أنه
لا يرغب في مفارقة الحارة، ولذلك هو حائر بين الأمرين.
عرفت فيما بعد، أن ود منصور عرض على
أقارب جمعة أن يتكفل برعاية جمعة وإخوانه، ويبقوا في الحارة، لكن الأقارب عارضوا
الفكرة، حتى لا يحملوا ود منصور ما لا طاقة له به، من جهة ومن جهة أخرى يبقوا أولاد
عائشة أم البنين في رعايتهم.
وانتقل جمعة وإخوانه، وخلال أيام كان
منزلهم معروضا للبيع، وهنا تقدم ود منصور لشرائه، ليس ليسكنه، فحسب، بل ليحفظ ذكرى
أهله، وساكنيه، وحتى لا يأتي غريب إلى حارتنا، لا نعرف له أصلا ولا فصلا.
ولم تكد تمر أسابيع قليلة، حتى آل اسم
عائشة أم البنين إلى النسيان، ولم يعد يذكرها الناس في حارتنا، علنا، غير أنها
بالتأكيد لم تنطمس من ذاكرتهم، بقيت وابناها محفورة في أذهانهم، كلما مروا قريبا
من بيتهم الذي كان، البيت الذي تمنيت أن تنتقل إليه سلاموه، وتعطينا فسحة في
دارنا، لكن قدرها كان أمرا مقضيا.
***
لو سألت أي أحد في حارتنا عن سلاموه،
سيدلك عليها،
وستقف قبالة دارنا، فيما سنقف نحن حولك، ذات اليمين وذات الشمال،
ننتظرك أن تنهي السلام عليها، وتقدم لها القرابين وتطلب منها البركات.
ولأن نافذة بيتنا، أو أقرب منه ذلك
نافذة غرفة سلاموه، صغيرة فلن تحتاج إلى قرابين كثيرة لتقدمها بركة للساكنة فيها،
يكفي أن تمسح بدهن العود ـ كما يفعل رجال حارتنا ـ وتخضب الجدار بعطور المسك
والعنبر والزعفران، وإذا زدت من الورس والمحلب، فلك البركات تزيد وتتعاظم.
سنقف قريبا منك، وأنت تتلو رجاءك،
وتقرأ شكواك، لكن لا تطيل الوقوف في حضرتها، وأنت الغريب الواصل إلينا.
لم تقل لنا من أنت؟.. وما الذي جاء بك
إلى سلاموه، في حارتنا وتركت جميع الحارات..
أخبرني والدي ذات مرة، أن في كل حارة
سلاموه، تحميها، وتهل بركاتها عليهم، فهلا أتيت إليها، ونلت بعضا من بركاتها،
وتركت لنا بركات سلاموه.
لم نسمع بأحد جاء إلى حارتنا، لهذا
المبتغى، ولم يسألنا أحد من قبل عنها، لنا سلاموه، ولنا البركات، وعلينا القرابين.
***
هذا أنت الآن تعرفنا، وتعرف حكايات
حارتنا... وحين تنصرف عنا، قد لا تذكرنا، لكنك حتما ستذكر سلاموه.
أقرأ :
لا تقل إنها أَضْغاثُ أساطير
أقرأ :
لا تقل إنها أَضْغاثُ أساطير
_______
مقاطع من حكاية طويلة قيد الأعداد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق