السبت، 10 نوفمبر 2012

عن فراس التوبي ... وطاولة وحيدة في مقهى وحيد ( 1 ـ 2 )

فراس (الأول يمين) مع طاقم العرض المسرحي مواطن


في الحياة نتعرف على اشخاص.. ونتعامل مع أناس.. ونجلس مع هؤلاء وهؤلاء.. لكن قلة منهم من يبقون في الذاكرة، ويتركون بصمة في قلوبنا، تنبض حنينا كلما جد ذكرهم.. وتنسمنا روائح عالمهم.. ولا تخلو الحياة من هؤلاء.. فهي تصنع الصدف لنلتقي بهم.. وتهيئ الظروف لتجمعنا بشخوصهم..
وفي مسار حياتي أفتخر بالكثير من الاصدقاء.. الذين صنعوا بصمة في حياتي، وكان لهم الأثر الأكبر في أن أكون أنا كما أنا.. دون أن تبخس الحياة بعد ذلك نصيبي من معرفة هؤلاء.. وكأنها تكافئني على كل صنيع لي معها.. إن صح صنيعي معها!.
فراس التوبي.. واحد من هؤلاء.. ولهذا الصديق الرائع، أكتب هذه الكلمات، عن لقائنا الأول في المغرب، البلد التي احببتها، لأنني أحببت كل شيء فيها، ولهذا سرد آخر.. ساحاول سرده تاليا، غير إنني ابتديء بحكاية الصديق العماني الذي عرفته من قبل كأسم.. ثم عرفته تاليا كشخص.. والآن أقدمه كصديق وأخ عزيز افتخر بمعرفته..
لم ألتق فراس التوبي من قبل.. فجل معرفتي به كان عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ورداً على تغريدة كتبها، أو اضافة فكرة تقاربها في الهلوسة التي كنت اوسم بها مشاركاتي في عالم تويتر، وظل شخص هذ الأسم مجهولا بالنسبة لي، حتى قرأت ذات مرة أسمه في موقع الكتروني باعتباره ابن لشاعر عماني معروف يقيم في المملكة المغربية، ويدرس هناك المسرح، وله اهتمامات بالفكر والثقافة والفنون.. كما له اشتغالات صحفية في مواقع اخبارية الكترونية.
مع الأيام تعمق التواصل الالكتروني بيننا، حتى بت أشعر إن اسم فراس التوبي واحد من الأسماء التي أعتز بمعرفتها في عالم تويتر.. العالم الحالم الذي نلون فيه واقعنا، ونجمل صورتنا فيه حينا، أو نعري انفسنا أحايين أخرى.. ومع هذا الأسم كانت هناك الكثير من الاسماء التي تعرفت عليها، واقتربت من عالمها.. دون أن يتسنى لنا اللقاء على أرض الواقع، والتعرف على كينونتنا عن قرب.
في ذات صباح كتب فراس التوبي عن رحلته إلى مدينة طنجة.. وتحدث عن جمال الجو والبحر والطعام والشراب والنساء، مؤكدا الوصف عنها بأنها سيدة الأنوار السبعة وأغنية البحار، وقال في تغريدة تالية، إنه يجلس في مقهى القديسة باولا حيث أرواح محمد شكري وتشرسب وبيكاسو ولوركا وكارمن..
كان ذلك بالنسبة لعاشق ترحال مثلي، ومهوس بمدن مثل طنجة باعثا لإسترجاع نصوص لـ محمد شكري وسعدي يوسف وحتى عبدالله الريامي.. قالوا الكثير عن طنجة.. ثم قذفت للريح حلم زيارة هذه المدينة ومدن مغربية أخرى.. وانتظرت  ما تأتِ به الريح.
ولم يطل الانتظار طويلا، فقد كتبت لفراس في اليوم التالي، عن ان البلاد التي تمنيتها.. تنتظرني!.
في كلماته وجدت فراس فرحا بفرحي.. وفرحا بتحقيق اللقاء الذي تمنينا أن يكون هنا ـ في عُمان ـ أو هناك ـ في المغرب ـ، وما هي إلا أيام قليلة حتى كنت أشتم هواء المغرب ونسيمه، وأذرع شوارعه وزقاقه.
كان أول ما قمت به هو التواصل مع فراس، واشعاره بأنني بت قريبا منه.. ومتأملا اللقاء به، ولم يأتني الرد لحظتها.. ثم حاولت الاتصال به، وكان هاتفه مغلقا.. بعدها كتب فراس يسألني عن الرباط وكيف وجدت هواؤها وليلها.. ثم طلب مني رقم هاتفي ووعدني بالاتصال.. ولكن تأخر عن الاتصال..
في اليوم الرابع.. عزمت التوقف عن ملاحقة فراس، وصرف النظر عن اللقاء به، فللرجل ظروفه التي قد لا أعرفها، تحول دون ذلك، وهممت بكتابة رسالتي الأخيرة له.. الرسالة التي تقصم أمل اللقاء، والتعرف على بعضينا بعدها.. لكنه سبقني، وكتب لي في ذاك الصباح تساؤل عما أفعله مساء ذلك اليوم.. قلت له لا شيء غير انتظار ما سيأتي.. ورد بدعوتي لحضور عرض لمسرحية مغربية، قال إنها ستكون الساعة  الثامنة في قاعة جيرارد فيليب في المعهد الفرنسي في زنقة الينبوع أمام القصر الملكي.. وإنه سيكون ضمن طاقم العرض.
تساءلت حينها.. وأنا الذي لم يقرر بعد ما إذا كنت سألبي هذه الدعوة أم لا، ماذا لو قطعت خيط التواصل ما بيني وبين هذا الانسان، ماذا لو كانت كلماتي الغاضبة قد صعدت إليه، هل كنت سأسامح نفسي بعدها، وبأي وسيلة يمكن اصلاح الكأس المكسورة بعد تناثر حطامها؟!.
عصر ذلك اليوم.. كنت على موعد مع المجموعة التي أنتمي لها، لزيارة مواقع سياحية في مدينة الرباط، كان الخروج لهذا البرنامج، سيسرقني من حضور العرض المسرحي، ولقاء فراس، ولذلك صعدت اشكالية عدم انضباط بعض زملاء المجموعة، وألتزامهم بمواعيد الانصراف، وأعلنت انسحابي من البرنامج.. وتبعني بعدها الصديق فيصل العلوي.. وخرجنا نتسكع معا في شوارع الرباط حيثما تقودنا أقدامنا..
أسررت لـ فيصل عن موعدي الليلة لحضور عرض مسرحي مغربي، بدعوة من صديق عماني مقيم هنا.. وألححت عليه مرافقتي.. وكنت أقصد في ذلك الاحتياط تحسبا من البقاء وحيدا في المسرح، حيث لا فراس ولا أحد أعرفه..
ووافق فيصل، وكنا بعدها في السابعة والنصف مساء نستقل سيارة أجرة أخذتنا إلى منطقة القصر الملكي في زنقة الينبوع حيث يوجد هناك المعهد الفرنسي.. ولم يكن هناك خلق كثيرون، بضعة أشخاص أكثرهم من سمات غير عربية، وقليل منهم مغاربة، يتبادلون الحديث، وعلى مدخل المعهد كان شاب عشريني يبيع تذاكر دخول العرض.. خلته في البدء حارس أمن، أقتربنا منه، وطلبنا تذكرتين.. وقالها بالفرنسية إن سعر التذكرة الواحدة هو 35 درهم.. وحين رأي الاستفهام على وجوهنا راح يوضح باصابعه وهو يتكلم ويشير إلى قيمة العملة المطلوبة..
دفع الصديق فيصل العلوي مبلغ المائة درهم.. ولم ننتظر الباقي، فقد كنت أنظر لملامح الشاب، واسأل نفسي إن كنت قد لمحته سلفا، وهو كان ينظر لي بصمت وتوتر.. صمت من لا يفهم كيف يتخاطب مع الواقفين أمامه، وتوتر من يستعد لتقديم عمل ما، ويخشى من فشله.
كنت أنظر إليه.. وأنا اسأل نفسي إن كان ذات الشخص الذي اقصد رؤيته هذه الليلة.. أم لا.. فالملامح تتقارب مع الصورة التي رأيته ذات مرة يضعها في بروفيله على التويتر، وهو باللبس العماني.. لكنه هنا مختلف.. كلي لا جذري.. ثم قررت أن أتحدى ترددي وسألته مستفهما: فراس؟!.
أبتسم فراس.. وقد عرف الشخص الواقف أمامه، فنادني بأسمي، ورحب بي، ثم عرفته على فيصل، ولم ننبس بعدها بكلمة، فاستأذنته للخروج حتى يحين موعد العرض.
في الساحة الخارجية للمعهد.. كنت أسأل نفسي إن كنت قد وجدت الشخص الذي تخيلته، أم لا.. ولماذا خرجت بهذه السرعة من لقاء شخص، سعيت إلى لقائه اياما وليالي.. وما هذا البرود في التعرف على شخص من بني وطني.. في غربة اتقاسمها معه، ولو بشيء يسير..
كنت أنظر إليه من البعيد.. وأنا أتخيل الشخص الذي يكتب لي.. ويخاطبني.. ويتواصل معي وكأننا نتعارف منذ زمن بعيد، وحين التقينا، كان لقاءً فاترا.. وحديثا عابرا.. حتى إنني لم اسأله عن أخباره، وأحواله، ولم أحمل معي شيئا له، أو حتى أقول له: إنني أحمل شوق الوطن إليه، وسلامه.
وعدت إليه، بعدما استأذنت من فيصل، وهذه المرة كنت بابتسامة انتصار معرفة الشخص الجالس أمام طاولة بيع التذاكر..
سألته عن أخباره.. وقال لي القليل عنها، فقد بدأ الناس يتقاطرون عليه لقطع تذاكر دخول العرض..
أخبرني أن الشخص المكلف ببيع التذاكر، تأخر عن الحضور، وكان عليه أن يقوم بهذه المهمة، ريثما يأتي آخر بديلا.. قال إنه ضمن طاقم إدارة العرض المسرحي الذي يحمل أسم "مواطن"، وهو ضمن مشروع يدعي داباتياتر.. وهو مشروع يقوم عليه مجموعة من الشباب المهتمين بالمسرح، من خلال اقامة مختبرات تجريبية، تنتج عنها عروض مسرحية تقام طيلة الأسبوع الأول من كل شهر، وتحقق شعبية واسعة من مختلف الأجيال والطبقات الاجتماعية الذين يتوافدون على قاعة جيرارد في المعهد الفرنسي في الرباط.. قرأت تاليا عنها إنها تحاكي تجربة المعلم الأرجنتيني أوغوستو بوال مؤسس مسرح المقموعين..
أستئذن فراس للدخول إلى القاعة، وتركني مع صديق مغربي عرفني به.. أبوبكر زميله في الدراسة في المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي..
كانت أبوبكر مهذب جدا.. وعلى خلق وثقافة عالية، وقد رحب بي أيما ترحيب، وقال لي إنه زميل فراس في المعهد وإنهما في السنة الرابعة والأخيرة.. ثم تحدث عن فراس بالقول إنه مجد ومخلص لعمله وفنه، وهو شاب خلوق يتمتع باحترام الجميع..
وشعرت إن أبوبكر نسخة من فراس.. وإنهما إنموذج للشباب الطموح.. وكان حدسي ذلك من لقائي الأول بهما.. وقد تأكد لي بمرور الأيام التي اقتربت فيها أكثر من شخوصهم.
كان قاعة جيرارد قد فتحت أبوابها.. حين أخذني أبوبكر والصديق فيصل العلوي إليها، وهو يطلب مني اختيار الاماكن المفضلة لدينا ويلازمنا حين العرض.. وكان اختيارنا الكراسي الاخيرة في المنتصف.. حيث خشبة المسرح تكون اكثر اتساعا ورؤية من هذا المكان.. وبدأ العرض.
كان اعجابنا به.. بليغا ونحن نشاهد مواهب مسرحية، صنعت عملا بديعا بإمكانيات بسيطة.. وهم يتبارون على الخشبة من الأفضل والأكثر ابداعا.. لمحت فراس ومجموعة من الشباب يجلسون على درجات السلم داخل القاعة، وأخال الارتياح على وجوههم من التصفيق للوحات عرضهم المسرحي..
وفي احدى اللوحات فاجأ احد الممثلين بالمنادة على أسم فراس التوبي.. باعتباره المسئول الذي سيتم استضافته للحديث عن إشاعة تتداول في مجتمع المواطن.. وكانت مفاجأة لم يتوقعها قبلها على مضض.. وسط تصفيق من الجميع.. ثم توالت لوحات العرض بعد ذلك، وصولا إلى المناقشة بين الجمهور وطاقم العرض.
كان أبوبكر حريصا على راحتنا.. حد أنه أخذ بين الفترة والأخرى يترجم بعض الكلمات والحوارات داخل العرض، ثم في المناقشة..
وحين أنتهى العرض المسرحي ومناقشته، وأسدل الستار.. خرجنا بانتظار تهنئة فراس والاستئذان منه، وشكره على هذه الليلة الجميلة..
كان الجميع يتبادل التهاني مع طاقم العرض، وبالتأكيد فقد كان فراس واحد من الذين استقبلوا كم التهاني والتحايا على تقديمهم هذا العرض الرائع.. وكنت أنتظر دوري.. واستئذن بعدها، حاملا جمالية اللقاء الأول، لشخص سأعتز بمعرفته كثيرا بعد هذه اللحظة..
اقترح فيصل عليّ المشي حتى الفندق، قال إنه يعرف الطريق، رغم بعده.. ووافقت طلبه.. فقد كنت منتشيا حد إنني لا أمانع لو مشيت بطول البلاد وعرضها..
وكان ذلك هو اللقاء الأول.. الذي تكرر بعد ذلك حين قال فراس لي إنه سيأخذني إلى مقهاه.. هذا الذي طالما ذكره في تغريداته.. وقال إن سيمر علي في الفندق..
قبيل الموعد.. أتصل فراس للتأكيد على لقاءنا.. وقال إنه في الطريق لي.. وحين وصوله، كنت ما زلت في الغرفة، وقد بدأ هو بالتعرف على بعض شباب المجموعة، وكان فيصل العلوي دليله للتعرف بهم.
بعدها كنت وأياه في السيارة نذرع الشارع في طريقنا إلى المقهى.. الساكن في زاوية غير مزحومة بالبشر.
قال لي فراس: إنه يقصد هذا المقهى، لأن كثير من الأدباء والفنانين يجتمعون على طاولته، يتناقشون ويتحاورن حول قضية وفكرة.. واحيانا يسمعون بعض ابداعاتهم..
صور فوتغرافية بديعة على جدار المقهى
اخترنا أن نجلس في الركن المطل على الشارع، وفي منتصف المقهى، كان ثلة من المثقفين يتحاورن حول كتاب معين، اما على جدران المقهى فقد توزعت بعض الصور الفوتغرافية الجميلة لمناظر من المغرب.. وصور ابداعية ملتقطة بحرفية جمالية عالية..
وغير ذلك كان المقهى هادئا، طلبنا قهوتنا.. وحين جاءت وجدت فراس يعتذر للفتاة في المقهى بلهجة لم أفهمها.. شرحها تاليا انه اعتذار عن تكليفها احضار القهوة إلى الطاولة، وهو من كان يأخذها بنفسه.. وكانت تلك خصلة كافية لسبر أغوار الجالس أمامي.. والتعرف عليه دون أن ينبت ببنت شفة..
في هذا اللقاء تعرفت على فراس التوبي.. صرت أعرفه كما أعرف نفسي، رغم إنه لم يقل شيئا بعد عن نفسه، حدثته عن ذاته، قبل أن احدثه عن ذاتي.. قلت له ما قلته نفسي لي عنه.. وكأني اقرأ كتابا مفتوحا.. بصفحات غير مبهمة وحروف بارزة واضحة.
قرأت في عينيه عشقه للوطن عمان.. ولقريته الساكنة في احدى قمم الجبل الأخضر.. وقرأت عن تعلقه بجده وتواصله الدائم معه.. وعن شوقه للعودة إلى الوطن، ورغبته في تنشيط الحراك المسرحي، وقرأت عن حبه المدفون بين رحايا فؤاده.. قرأت أحلامه وتطلعاته.. همومه وشجونه.. احاسيسه ومشاعره.. وعن الحزن الخفي من مستقبل غامض، لا يود التفكير فيه كثيرا.
كان فنجان القهوة الذي طلبه، يسمع مناجاته كل مرة يأتي فيها إلى هذا المقهى، الذي اتخذه سكنا له حين يشتاق إلى جلسة تأمل مع نفسه..

مسقط ـ في 10 نوفمبر 2012 


عن فراس التوبي ... وطاولة وحيدة في مقهى وحيد (2 ـ 2)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق