لم
تكن معرفتي به، أكثر من محاورة صغيرة في موقع تويتر، العالم الافتراضي الذي أطل من
خلاله على العالم من حولي، وكأنه يسكن على راحة يدي.. كنت أتفق كثيرا مع اطروحاته
ورؤيته حول قضايا اجتماعية وفكرية، اضافة إلى كتابات أو بلغة تويتر تغريدات تظهر
صورة الإنسان العماني الأصيل المتمسك بقيمه واصالته، يتحدث عن والده وعن جيرانه وأصحابه
وأهل قريته وحتى زملائه في مكتبه بكل حب وتقدير، لا تملك حيال رجل كهذا إلا أن
تحترمه، وتقتفي أثر فكره وفلسفته في الحياة.
كان
خليفة الهنائي، واحدا من الأشخاص الذين يسعد المرء بالتواصل معهم، ولذلك كنت أسعد
حين أجده قد رد على "تغريدة" لي، أو أعاد تدويرها أو تفضيلها، و أسعد
أكثر وأكثر حين أجده في صباح آخر وقد أرسل لي تحية الصباح، أو أختصني باشارة في
تغريدة له.. كثيرا ما كان يحدث ذلك بمبادرة كريمة منه، وفي أحايين أخرى كنت أستهل
صباحاتي بتحيته هو مجموعة من الأشخاص الذين أعتز بمعرفتهم في عالمي الافتراضي، دون
أن ألتقي بأي منهم، أو يكون لي تواصل مباشر معهم في عالمي الواقعي.
ذات
صباح رمضاني، والشهر الفضيل يمضي في أيامه الأخيرة، وصلتني رسالة على الخاص في
صفحتي على تويتر من خليفة الهنائي يسألني إن كنت موجودا في نزوى، ليدعونني إلى
تناول الأفطار معه في بيته في وادي سميط..
تفاجأت
أولا أن خليفة الهنائي الذي آخال إنه من قاطني قرية الوادي اﻷعلى في ولاية بهلاء
حيث سحر الطبيعة، وأصوات المزارعين العائدين من حقولهم تمتزج مع أصوات العصافير
العائدة إلى أوكارها، هو ايضا أبن مدينتي بحكم سكنه فيها، ثم سعدت ثانيا لأن الرجل
الذي أقدره وأكن له معزة خاصة يدعونني للإفطار عنده، ومهما يكن الذين قام بدعوتهم
لهذا الافطار، فكوني واحد منهم، يعني أن الرجل يكن لي تقدير ومعزة، تغمرني بالزهو
والسعادة.
كنت
يومها مدعوا على افطار عائلي، ولدي انشغالات أخرى، لكنني ازاء دعوة كريمة كهذه،
اعتذرت من الافطار العائلي، وأجلت مشاغلي، فمن ذا الذي يفوت لقاء بشخصية كـ خليفة
الهنائي، وما أحوجني إلى الاستماع إليه وجها لوجه.
وصف
لي الطريق بعدما تبادلنا أرقام الهواتف، وكدت أخطئ في الرجل الذي كان ينتظرني قبيل
أذان المغرب أمام منزله، حين توقفت أمام رجل آخر خلته يكون هو، لكنني اكتشفت سريعا
أنني اخطأت وجهتي، فعدت لأتحدث مع خليفة ويصف لي المنزل أكثر، وما هي إلا دقائق
معدودة حتى كنت أتشرف بضيافته لي في منزله العامر.
لم
يكن في المنزل أحدا غيري، فقلت ربما إنني وصلت أول المدعوين، لكنني تفاجأت أن
العزيمة كانت خصيصا لي، وكان معنا ثلاثة من ابنائه الذين شاركونا طعام الافطار، عرفني
خليفة بهم، واذكر من بينهم سيف الذي كان الأكثر تواصلا مع جلستنا التي تواصلت بعد
اداء صلاتي المغرب ثم العشاء والترايح.
في
تلك الليلة، وفي جلستنا الأولى تعرفت على خليفة الهنائي "أبو سيف" كما
لم أعرفه من قبل، وازددت معزة له ولأفكاره الهادفة، وأعترف إنني استفدت من تلك
الجلسة واستمعت إليه أكثر مما استمع لي هو..
كان
حديثنا متشعبا لمواضيع شتى، فرضت ذاتها في الساحة المحلية، وليس أهمها قضية المتهمين
بقضايا الاعابة والتجمهر.. وتطوعه للدفاع عن الذين تم ادانتهم من قبل المحكمة
الابتدائية في قضايا التجمهر بقصد الإخلال بالنظام العام، ومن ثم التشهير بهم في
وسائل الاعلام المختلفة، الأمر الذي يعد سابقة، استوجبت المبادرة للدفاع عن هؤلاء
المتهمون حرصا على صورة القضاء، وصونا لحقوق وواجبات المواطنة التي تقرها وتنص
عليها القوانين النافذة في السلطنة وعلى صدارتها النظام الساسي للدولة.
قال
خليفة لي: إن مبادرته هذه بقدر ما وجدت ترحيبا لدى فئات في المجتمع، فإنها قوبلت
بتهكم من فئات أخرى، والبعض اتهمه بالسعي إلى الشهرة وغيرها من العبارات، لكن ذلك
لن يثنيه، فواجبه تجاه هذه المجتمع ومسئوليته الوطنية تحتم عليه أن يتخذ مثل هذه
المواقف، وقد انضم إليه عدد من المحامين الذين تطوع الكثير منهم للدفاع عن
المتهمين في قضايا الاعابة والتجمهر.
ومع
هذا الحديث كان الكلام يأخذنا إلى أهمية مراجعة بعض القوانين التي تمس حياة
المواطن وتتصل بمعاملاته اليومية، وقد ضرب خليفة الهنائي مثال بذلك القانون الذي
يؤطر العلاقة بين المؤجر والمستأجر، وكيف أن الكثير من المؤجرين أو المستأجرين
يلجئون إلى حل نزاعاتهم في المحاكم نظرا لعدم وجود بنود واضحة تحكم العلاقة بينهم.
تحدثنا
في القانون وفهمه، كما تحدثنا في مواضيع مختلفة، وأخبرني عن رغبته الانتقال بعائلته
إلى مسقط، وقال إن البحث جار عن سكن مناسب، سيما وانه مكتبه للمحاماة والاستشارات
القانونية في العذيبة يتطلب التواجد فيه بصفة مستمرة، والالتقاء بالناس الذين
يفدون عليه.
حدثني
عن قضايا عديدة رفض الترافع فيها للمصلحة الوطنية، وكانت ستحقق له شهرة كبيرة،
لكنه ليس طالب شهرة بقدر ما هو طالب حق، ومساعدة من وقعت عليه مظلمة ولا يستطيع
الترافع فيها والدفاع عنه نفسه، واسترداد حقه.
ومع
الحديث المتوالي، إلتئمنا مرة أخرى على مائدة العشاء، الذي ساهم أبنه سيف في
اعداده، شعرت إنني قريب من هذه العائلة، وأنني أعرف خليفة الهنائي منذ سنوات عديدة،
وأن الحديث المنساب معه، يشعرني أنا التلميذ برغبة ملحة في الاستزادة من استاذه..
دون أن يروي نهمه للفكر وعطشه للمعرفة.
كانت
الساعة تقترب من الحادية عشر ليلا، وفي تلك اللحظة بدأ عرض المسلسل الشهير
"عمر"، فشعرت أن الصمت سيكون رفيقنا ونحن نستمتع برائعة المخرج حاتم
علي، وحكاية الفاروق التي جذبت إليها مشاهدي التلفزيون في الشهر الفضيل..
استأذنت من خليفة، بعد خمس ساعات قضيتها في صحبته، مرت كأنها دقائق.. وأنا ممتن
لهذه اللفتة الكريمة، ولم أملك أن أقدم لهذا الرجل الذي أكرمني في بيته غير عبارات
شكر وجيزة.
في
تالي الأيام تابعت مبادرات خليفة الهنائي في مواضيع شتى، كان مثالا للشهامة
والنبل، واذكر فكرته الجميلة التي أطلقها عبر موقع تويتر للحد من حوادث المرور،
بطريقة مغايرة عن الحملات التوعوية المقدمة في هذا الاطار، سعيا لتحقيق الأهداف
التي عجزت هذه الحملات عن تحقيقها، عبر حملة شعبية تهدف إلى تقديم دراسات ورؤى
للجهات الرسمية للحد من الحوادث المرورية، وتعمل على نشر التوعية بطرق مبتكرة
وناجعة.
كان الفكرة
بحد ذاتها جيدة ورائدة، وقد جذبت الكثير من الشباب إليها، وانضوى تحت رايتها
العديد منهم الذين شكلوا فيما بعد لجان متخصصة تعنى بالهندسة والقانون والاعلام
والتنظيم وغيرها، وقد سلم خليفة راية هذه الحملة التي اطلق عليها حملة درب
السلامة، لجنة رئيسية تشكلت عضويتها من مجموعة من المتطوعين الذين رشحتهم اللجان
الفرعية لعضوية اللجنة الرئيسية، كان خليفة الهنائي يتوق بهذه الحملة إلغاء ظاهرة
نسب العمل لشخص أو أشخاص محددين، ساعيا لتقديم تجربة تحترم العمل الجماعي وتلغي
فكرة الأنا.
كان
متحمسا لها أيما حماس، وقد بدأت لجان الحملة بعقد اجتماعات متوالية وقدمت مجموعة
من الافكار بدأت العمل عليها، كان خليفة الهنائي رغم مشاغله واعماله اليومية،
وظروف انتقاله إلى المسكن الذي استقر عليه في مسقط، يتابع عمل اعضاء اللجان،
ويحثهم على العمل وبذل الجهد من أجل قضية اجتماعية، والحصول على ثقة الحكومة في
قدرة الشباب على العطاء المتقن في أصعب الملفات والمواضيع بعيدا عن الطرق
التقليدية.
كان
خليفة الهنائي وهو يفتح مكتبه تارة وبيته تارة أخرى لاعضاء حملة درب السلامة
للإجتماع ومناقشة الافكار المطروحة، يبث الثقة في اعضاء الحملة، ويؤكد على قدرتهم على
إثبات حسن اختيار اللجان لهم، وأن نجاحهم سيقود لنجاحات قادمة بإذن الله.
لكن
الآمال التي بنى عليها خليفة الهنائي، تحطمت بفعل فاعل أو مجموعة فاعلين.. غير أن
خليفة مع كل ذلك ظل صامتا لا يوجه اللوم أو يحمل المسئولية لأحد، محافظا على نقائه،
وصفاء سريرته، تاركا لمدير الحملة والاعضاء الاجابة عن سؤال الاختفاء و تواري
الحملة الذي يطرح هنا أو هناك.
ولم
يتوقف خليفة عن المبادرة والاسهام في كل ما من شأنه رفع الوعي القانوني للإفراد
والدفاع عن حقوقهم، وأشير هنا إلى مرافعته للدفاع في قضية التجمهر لدى محكمة
الاستئناف بمسقط، واقتطف هنا منها "من الثابت قانونا أن جريمة التجمهر بقصد
الإخلال بالنظام العام تتطلب قصدا جنائيا خاصا يتمثل في إنصراف إرادة المتهمين إلى
إحداث إخلال بالنظام العام ـ فتجمع
أو تجمهر عدد من الناس لا يشكل جريمة في حد ذاته – وإنما يجب أن يكون هذا التجمهر
مقرونا بنية الإخلال بالنظام العام ـ وهذا القصد الخاص هو مناط تأثيم فعل التجمهر
والقول بغير ذلك مؤداه خضوع أي تجمعات بشرية في أي مناسبة اجتماعية أو دينية أو
ثقافية للتجريم وهو ما يتنافى ومنطق الامور".
أقول
لم يتوقف خليفة الهنائي عن المبادرة والاسهام في رفع الوعي القانوني والتعريف بالحقوق
والواجبات، فقد قرأت اليوم الأحد (25 نوفمبر2012م) استعداده للتطوع لرفع دعوى تتعلق
بموضوع الاتصال عبر الانترنت، وهي قضية مهمة شغلت الكثير من عملاء شركتي الاتصالات
في السلطنة، بسبب دفعهم مبالغ لخدمات وتطبيقات لا تشتغل في السلطنة.
ولن
نغفل في هذا الاطار مبادرته القائمة على رفع الوعي القانوني لطلبة المدارس،
ومحاولاته ادخال شيئا من القانون في منهاج الدراسة، بالاضافة إلى حضوره ومشاركته
في الندوات التي تعنى بالحرية والفكر والقوانين.
وأخيرا
يظل أسم خليفة الهنائي من الاشخاص الذين يعتز المرء بمعرفتهم، فلا حاجة إلى
الاسهاب في شخصه المتواضع، وخلقه الرفيع، واطلاعه الواسع، وقراءته المتعمقة في
مجالات الفكر والأدب والثقافة، وهو فوق كل هذا وذاك، واحد من أهل هذه الأرض التي
يعتز بالانتماء إليها، كما تعتز هي أن خليفة بن سيف الهنائي واحد من ابنائها الطيبين.
مسقط ـ في 25 نوفمبر 2012م