ككل الصباحات
في رام الله..
نلتقي
على مائدة الإفطار.. نسأل عن الأخبار، وننبش في الذكريات الجميلة التي تتشكل يوما بعد
آخر في هذه البلاد، نقلب الصحف الصادرة في رام الله، نتتبع أخبارنا، ونبحث عن صورنا
الساكنة في عدسات الزملاء، ونتبادل ضحكة على موقف مررنا به، أو حكاية ولدت هنا أو هناك.
في الحافلة،
نتأكد من عددنا..
يهمنا
ألا يتأخر أحد عن البرنامج، نسأل مرافقينا، عن وجهتنا القادمة، ثم تتوالى الأسئلة عما
سيحدث هناك، ومن سنقابل.. ومتى.. وكيف...
تمضي الحافلة،
ووجه رام الله يصحبنا حتى الحاجز الذي ننعطف منه إلى وجهتنا القادمة، وذات الحكاية
مع الجندي الإسرائيلي الذي بدا وكأنه تآلف معنا، حد أنه لم يأبه في تفتيش قسمات وجوهنا،
والنظر إلينا فردا فردا، يكتفي برؤية ورقة صغيرة يرفعها سائق الحافلة، ثم يشير لنا
بالتحرك.
كانت اللافتات
التي تخبر عن أسماء المدن والمستعمرات
واتجاهها تثير إنتباهنا، فعلى الطريق رقم
(60) أحد طرق الضفة الغربية، والذي يربط ما
بين مدينة السبع جنوبا حتى مدينة الناصرة، تسكن العديد من المستعمرات، التي تترابط
بعضها ببعض على هذا الطريق، وتطوق المدن والقرى الفلسطينية، وتحبسها داخل زنزانتها
الكبرى.
ولكون
الطريق رقم (60) يمر بمعظم مناطق الضفة الغربية كالخليل وبيت لحم والقدس وجنين، فقد
كان علينا المرور عليه بشكل دائم، كلما غادرنا رام الله إلى مدينة أخرى..
كانت الأسماء
العبرية للمدن المحتلة لافتة لنا، نطلب من السائق التمهل وهو يحاذي لافتات المدن، فيطلق
حمدان البادي عدسته نحوها، وكذلك يفعل مصطفى أحمد، ومن الاتجاه الآخر يفعل مثلهما عاصم
الشيدي وحمود الطوقي، وأسمع عزيزة راشد تستعين بعبدالعزيز ليصور لها المشهد، وحده حاتم
الطائي من يسترخي في آخر الحافلة وهو يتأمل المشهد الماثل أمامه، وكأنه يتأهب لتصوير
فيلم سينمائي قصير، تحوم فكرته على مد بصره..
في مقدمة
الحافلة يدور نقاش خافت بين عوض باقوير وسالم الجهوري، ويشترك فيه مرافقونا هشام واصف
وأسد شجاع ومحمد سطيح، وغير ذلك تبدو الحافلة هادئة في مسارها، قبل أن يحتدم الجدال
بين حمود الطوقي ومصطفى أحمد، يختمها الأخير بكلمة استنكارية، تثير المرح في الحافلة..
نقرأ أورشليم..
وبين قوسين القدس، ومعها مستعمرة بيت أيل، وعيلي ومفرق تبواح..
أورشليم!
التي عصرت كل أسمائها
في دمي...
خدعتني
اللغات التي خدعتني
لن أُسمّيكِ
إني أذوب,
وإنَّ المسافات أقربْ
وإمامُ
المغنّين صكَّ سلاحاً ليقتلني
في زمان
الحنين المعلّب
والمزامير
صارت حجارهَْ
رجموني
بها
وأعادوا
اغتيالي
قرب بيّارة
البرتقالِ...
***
كان الطريق
يأخذنا إلى مدينة الخليل.. مهد أبو الأنبياء خليل الرحمن، إبراهيم عليه السلام..
كان الشوق
يسبقنا إلى المدينة، حيث تهفو النفس للصلاة في المسجد الإبراهيمي.. والتضرع إلى الله
في بقعة فلسطينية مقدسة، والدعاء لها بالخلاص من براثن الإحتلال..
طال المسير
قليلا.. بسبب الإلتفاف حول الطرق الممنوعة كي نسلك الطرق المسموح لنا العبور فيها..
انضمت
إلينا رضا خضر ممثلة الهيئة العمانية للأعمال الخيرية في الضفة الغربية، التي قادتنا
في البدء للتعرف على المشاريع التي تنفذها الهيئة في ربوع الوطن الفلسطيني، وماهيتها،
حدثتنا عن المدارس والمجمعات الصحية، وعن المساهمة العمانية في مساعدة الجامعات الفلسطينية
على التوسع، واستيعاب الطلب المتنامي عليها، والإعانات التي تقدم للجمعيات والأفراد..
وعن أشياء كثيرة، وقالت إن ذلك يسهم في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني، والتخفيف من معاناة
الانتقال وعبور الحواجز، للوصول إلى أقرب مدرسة أو مستوصف.
أخبرتنا
رضا عن أرقام المساعدات العمانية.. وعن نصيب الخليل منها، وكنا بعدها نسلك الطريق الواصل
إلى بلدة صوريف إلى الشمال الغربي من مدينة الخليل، تتقدمنا سيارتان ترفعان العلم العُماني
والفلسطيني إحتفاءً بوصولنا، فيما انضم إلى حافلتنا مسئول من بلدية الخليل، الذي راح
يخبرنا عن إنتهاكات الاحتلال وعن القتل والتشريد ومصادرة الأراضي.. وعن حرق أشجار الزيتون..
وقطع الطرق، وعن مضايقات عديدة يتعرض لها أهالي المدينة..
من على
سطح عيادة مسقط في صوريف وفوق رقعة جبلية ترتفع 600م عن سطح البحر، شاهدت إمتداد البلدة
والقرى المحاذية لها، وتتبعت جهة الحرم الإبراهيمي، قريبا من المكان، وفي منطقة جبلية
أكثر ارتفاعا، تبدت لنا بقايا مستعمرة أقامها الاحتلال، بعد حيازة عدد ضئيل من المستعمرين
للمكان، قبل أن يضطروا لمغادرته، بعد أن انقلبت عليهم المضايقات التي كانوا يمارسونها
بحق الفلسطينيين..
كنا نحتضن
النسيم البارد الذي يهب علينا، ونحن في بقعة مرتفعة، تطل على واحات الزيتون الممتدة،
وعلى أشجار العنب والتين واللوز، وعلى منازل الفلسطينيين التي بدأت تقوم من تحت الانقاض،
والتعمير يأخذ مجراه من رصف الطرق، ومد خطوط الماء والكهرباء، وتنفيذ المشاريع التعليمية
والصحية..
أطللت
بفرح على المكان.. سألت مجددا عن إتجاه الحرم الإبراهيمي، أنظر ناحيته.. أتأمل البقعة
الساكن فيها، تحلق الروح كيمامة نحوه..
تودّ العين..
لو طارت إليك
كما يطير
النوم من سجني
يود القلب
لو يحبو إليك
على حصى
الحزن.
***
لا يمكن
أن تكتب عن الخليل، دون أن تقذف بصرك في كل
الجهات، دون أن تتأمل الخرب التي أقامها
الاستيطان، ودون أن تسمع حكاية نبع الماء الذي سرقه الأعداء بعد احتلالهم المدينة،
وحرموا منه السكان، لا يمكن أن تقول شيئا في حضرة مدينة أبو الأنبياء، وأنت محروم من
الدخول إلى عتباتها المقدسة، والصلاة في المسجد الإبراهيمي، ودون أن يكون لك الحق في
التجوال داخل المدينة القديمة، أو أن تشرب عصير الرمان في سوق الحرم.. ودون أن تكون
ذاتك الحرة تحلق حيثما تشاء وكيفما تشاء.
تكتب عن
الخليل وتستقرئ التاريخ المكتوب على دروبها، وتستنطق أشجار الزيتون، والعابرين في طرقاتها،
المكلومين بالجراح، الساهرين على الأنين، المثقلين بوجع الأيام، الباحثين عن طائر يحلق
في سمائهم، وعن سلام يمشي على أرضهم، عن الوجع المكبوت في الصدور، عن الإبتسامة الشاحبة،
والأيام الثقال التي تمر عليهم، وعن العلم الفلسطيني الذي أنُزِل من ديارهم، ومنع من
التداول، وعن النجمة التي تتربع بين لونين..
وطني
! أُفتِّش عنك فيك فلا أرى
إلاّ شقوق
يديك فوق جباهِ
وطني أتفتحُ
في الخرائب كوة ؟
فالملح
ذاب على يدي وشفاهي
مطر على
الإسفلتِ, يجرفني إلى
ميناءِ
موتانا ... وجرحُك ناهِ .
***
لا أعرف
ما دلالة الأسماء التي تقودنا إلى المدن الجميلة في فلسطين، فطريق وادي النار هو من
أخذنا إلى بيت لحم، واليوم يأخذنا طريق وادي جهنم إلى مدينة الخليل، والطريقان لا يختلفان
عن بعضهما البعض، مع إختلاف المشاهد الماثلة أمامنا.
تعرجات
وانكسارات عدة، تميل بنا الحافلة يسارا ويمينا، ثم تصعد حينا وتهبط حينا آخر، وأرواحنا
تحلق على وقع حديث عن المنطقة الأكثر إلتهابا، والمستعمرات تحتم علينا الإلتفاف والدوران،
حتى إذا ما بلغنا مشارف الخليل، اصطدمت أبصارنا بمستعمرة "كريات أربع"، أول
وأضخم مستعمرة يهودية، وهي تطوق المدينة وتحاصرها جغرافيا وسكانيا.
يرجع تاريخ
كريات أربع إلى العام الذى تلا نكسة 1967 مباشرة، حيث طلبت مجموعة من الإسرائيليين
وعلى رأسهم المتطرف موشيه لفينجر من الجيش الإسرائيلى أن يأذن لهم بقضاء عطلة عيد الفصح
فى فندق بارك بالخليل، وبقيت المجموعة في الفندق بعد الأعياد وحصلت على دعم عدد من
السياسيين الإسرائيليين.
وبعد عدة
أشهر تم التوصل إلى حل وسط بين مجموعة لفينجر والسلطات الإسرائيلية، منحت بموجبها المجموعة
قطعة أرض شرق مدينة الخليل تمت مصادرتها من قبل الاحتلال، وبدأوا بإنشاء المستعمرة،
التى تجاوز عدد سكانها الآن سبعة آلاف نسمة.
وقد أدى
بناء هذه المستعمرة إلى تدمير عشرات المنازل الفلسطينية وتهجير أهاليها ومصادرة أراضيهم،
إضافة إلى اضطرار السكان إلى ترك بيوتهم بسبب الاعتداءات والمضايقات غير المنتهية من
المستعمرين المتطرفين.
ندخل الخليل..
متوجسين، خائفين أن نعود من حيث أتينا، هي الحكاية ذاتها تتناسخ في المدن الفلسطينية
المحتلة، تعبر الحواجز، ونقاط التفتيش، تنتظر إذن المرور، وكأنك تتوسل العبور إلى أرضك
وديارك، ثم تمضي في طريقٍ ملتوٍ، وتتباعد المسافة الواصلة بينك وبين مقصدك، ثم إشارة
من عسكري لم يبلغ العقد الثاني برتبة عريف أو أدنى من ذلك، تعيدك من حيث أتيت.
نتبع السيارتين
اللتين أحتفتا بوصولنا، نتوقف معهما في نقطة
تالية، نترجل من الحافلة، يخبرنا مسئول
البلدية، أننا سنعرج بدءا على لجنة إعمار الخليل، في البلدة القديمة، للتعرف على أهداف
واستراتيجية اللجنة، ودورها في إعادة وتأهيل
وإعمار المباني التاريخية.
في غرفة
متوسطة ضمن مبنى يحمل إسم لجنة إعمار الخليل، أخذنا موقعنا، شاهدنا فيلما عن المدينة،
وعن تاريخها، وعن إحتلالها، وخطة سلطات الاحتلال والجماعات الاستيطانية المتطرفة لتنفيذ
خطة ممنهجة لتهويد البلدة القديمة، والسيطرة عليها من خلال إنشاء خمس بؤر استيطانية
لتحويل البلدة القديمة إلى حي استيطاني كبير، وتأمين الحماية الكاملة للمستوطنين المتطرفين،
والاجراءات التعسفية الممارسة بحق سكان البلدة، كفرض حظر التجول لفترات زمنية طويلة،
وإغلاق المداخل المؤدية إليها، وإغلاق المناطق والمحلات التجارية والسيطرة على ممتلكات
المواطنين ومصادرة أراضيهم، بالاضافة للاعتداء على السكان وإرهابهم من قبل جيش الاحتلال
والمستوطنين لتهجيرهم.
سيمتدُّ
هذا الحصار ليقنعنا باختيار عبوديّة لا تضرّ، ولكن بحريَّة كاملة !!.
***
في الطريق
الذي سلكناه إلى الحرم الإبراهيمي، مررنا بدروب البلدة القديمة، كان علينا أن نلتف
حول المكان، حيث يمنع على العرب الدخول في المناطق التي احتلتها إسرائيل بالكامل، وأقامت
عليها مستعمراتها، يخبرنا مرافقونا، أن المدينة هنا وحدها تحتوي على خمسة مواقع استيطانية
يهودية وهي مستعمرة تل الرميده، والدبويا، ومدرسة أسامة بن المنقذ وسوق الخضار والاستراحة
السياحية قرب المسجد الإبراهيمي الشريف، بالإضافة إلى التجمع الاستعماري اليهودي على
حدود المدينة الشرقية المتمثل في كريات أربع
وخارسينا.
يقول محدثنا:
إن الخليل هي المدينة الفلسطينية الوحيدة التي اقيمت في قلبها مستعمرة، إنها تمنح المستعمرين
حرية الحركة والتنقل على حسابنا، تضيق بنا دروبنا، وتهدم منازلنا، وتقطع طرقاتنا، من
أجل حماية شرذمة من المستعمرين..
يا شارع
الأضواء! ما لون السماء
وعلام
يرقص هؤلاء؟
من أين
أعبر، والصدور على الصدور
والساق
فوق الساق. ما جدوى بكائي
أي عاصفة
يفتنها البكاء؟.
نصل إلى
البوابات الحديدية، التي تنظم دخولنا واحدا تلو الآخر، يتم تفتيشنا، يرمقنا العسكري
بريبة، يبحث في سحناتنا عن وجوه مألوفة له، يحاول أن يقرأ في قسماتنا، لماذا نحن هنا،
يسأل في قرارة نفسه عن جنسيتنا، وهو الذي لم يبرح ثكنته العسكرية غير إلى داره المغتصبة
من أهلها، يهمس بعربية مكسرة لأحد مرافقينا عمن نكون.. ثم يعيد النظر إلينا، نتجمع
قريبا من السلم الصاعد إلى المسجد الإبراهيمي، ثمة بوابة أكبر هناك، وحراسة أكثر، يسألنا
العسكري الإسرائيلي الآخر، عمن
نكون، ولماذا نحن هنا، ثم يقول إنه ليس لديه أوامر بإدخالنا
إلى المسجد، نحاول التفاهم معه، ثم يجري إتصالا هاتفيا، ويرطن بلغته العبرية، وبعدها،
يسمح لنا بالصعود إلى المسجد.
كل ذلك
حدث، والطريق إلى الحرم الإبراهيمي ليست مقطوعة، والبوابات ليست موصدة، والزيارة مفتوحة،
وسلطات الإحتلال رفعت الحظر الذي كان على المسجد قبل بضع ساعات، وكل ذلك حدث مع وفد
رسمي، يملك تراخيص مرور، ولا أعتقد أن سلطات الاحتلال، غائبة عنا، ولا تعرف عن أمرنا
شيئا.. ولكنها العنجهية الإسرائيلية التي استباحت المقدسات، واغتصبت الأرض، وهدمت المنازل،
وسجنت الأبرياء، العنجهية التي يرفع جنود صغار اياديهم في وجوهنا، ويمنعوننا من التحرك
إلا بأمر منهم وموافقة من قبلهم.
أتحرر
من اغلالي في تلك اللحظة.. بيني وبين المسجد الإبراهيمي الشريف بضع خطوات، أكاد حينها
ألمس جدرانه، بل إنني أقف على أرضه وترابه، فما الذي يحول بيني وبينه، غير هذا العسكري،
الذي مارس سطوته كما يريد علينا.. ثم أعطانا جواز المرور..
يا دامي
العينين والكفين
إن الليل
زائل
لا غرفة
التوقيف باقية
ولا زرد
السلاسل
نيرون
مات ولم تمت روما
بعينيها
تقاتل
وحبوب
سنبلة تجف
ستملأ
الوادي سنابل ..!.