أريد صورة تشبهني .
قلت للمصور، وأنا أهم بدخول استوديو التصوير، وأجلس على المقعد المخصص لذلك.
نظر إلي، والدهشة تعلو وجهه، من هذا الذي يريد صورة تشبهه، وكأن هناك صورًا لا تشبه أصحابها.
لم يقل شيئا..
وإنما أشار لي باتخاذ الوضعية المناسبة لي للتصوير، والنظر بثبات نحو العدسة، وراح يتأمل الصورة المنعكسة عنده.
أتامل العدسة الواقفة أمامي.. أمسك بلحظة الزمن العابرة.. أحملها معي، لترافقني في الصورة التي ستكون بعدئذ ذكرى لإنسان كان هنا، أتأكد من كل التفاصيل التي تتلبسني، والملامح التي تميزني.. أتأكد من نفسي التي ترافقني، ومن نظرتي الحزينة التي تودع زمنا.. ستتذكره طويلا.
لا أعرف من سينظر لهذه الصورة في تالي الأيام، ولا الكلمات التي ستقال حينها، ولا أعرف أين ستحط الصورة رحالها في آخر المطاف، وماهية الكلام الذي سيدون أسفلها، حتى الذاكرة التي ستختزنها، تبدو لي ضبابية، لا ملامح لها.
على جدران الأستوديو بدت بعض الصور، وكأنها تشير إلى أناس كانوا في هذا المكان، وحطوا رحالهم هنا، رحلوا خارج الصورة، وبقيت ذاكرتهم، أراهم ينظرون إلي، أنا الذي سأصبح في لحظة توشك أن تبزغ، مثلهم، معلقا من ذاكرتي، أنظر من الفراغ، إلى الضجيج المحيط بي، ولا أتبين الخيط الأبيض من الأسود.
المصور يعطي اشارة استعداده لتوثيق لحظة الزمن التي أقف عليها.. يتأكد أن نظرتي مصوبة جهة العدسة.. بعد قليل، سأقوم من مكاني، فيما يبقي طيفي عالقا في المكان، سيقول المصور ذات زمن: كان هنا، في ذلك المقعد، يناظرني، كمن يناظر قدره، ويستسلم لمصيره، حين قبضت صورته، لم يبد أي مقاومة..
تطلق العدسة وميض يرتد له البصر خاسئا وهو حسير..
يقوم الذي يفترض به أن يكون "أنا" من مكانه، وأبقى أنا متسمرًا، يستعيد "هو" هيئته، وصورته التي جاء عليها، وأنا أنظر إليه دون حراك، أترقب ولادة الصورة.. و"طيفي" يهم بالدخول إليها، ويبقى هنا، يناظر كل من يناظر إليه.
يبزغ نور الصورة..
أنظر إلى الساكن فيها..
أتأمل ملامحه..
أفتش في هيئته..
يا إلهي.. أنه ليس أنا!.
ليس أنا من يقف في هذه الصورة، وهذا الوجه لا أعرفه، الشيب يغزو رأسه وعيناه جاحظتان وملامحه باهتة.. والحياة التي يحمل ذكراها، ليست لي، كل الضجيج الذي يلفني، لا أراه هنا.
أعيد تأمل الصورة.. هذا يحمل تعب السنين.. ووجع الأيام.. نظرته حزينة.. لا يكاد يقوى على الابتسامة.. كمن يناظر إلى قدره، لا إلى عدسة تلتقط له لحظة فاصلة من الزمن..
أذكر أنني أبتسمت طويلا، وأنا أستعد لتصوير هذه اللحظة، وأذكر أنني أمسكت بكل التفاصيل الجميلة والسعيدة في حياتي.. ووضعتها نصب عيني..
ناظرتها وأنا سعيد بكل لحظة فيها.. لكني أراني شخصا آخر.. يسكنه البؤس والشقاء.. والحزن يغلف نظراته..
هل "هو" أنا.. أم "أنا" هو.. أم كلانا شخصان جمعهما القدر في مكان واحد.. اجتمعا في صورة.. وتفرقا على ابتسامة..
أحمل دهشتي.. وأترك الشخص الغريب في صورته..
أترك الصورة في هيئة الشخص الغريب..
وأترك ابتسامتي.. عله يقاوم بها أحزانه..
في أستوديو التصوير التالي الذي دخلته.. قلت للمصور، وأنا أجلس على المقعد المخصص: أريد صورة تشبهني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق