في
رسالته الأولى كتب لي يقول: أعجبت كثيرًا بمقالك اليوم.. شعرت أنه قريب مني، أتمنى
لو أتعرف عليك عن قرب.
كانت
الرسالة التي وصلتني عبر البريد الإلكتروني، لا تحمل أكثر من توقيع المرسل: علي،
لا كلمات أكثر، ولا دلالة على شخص المرسل، تقودني لتحقيق هذا التواصل، وكان أن
كتبت الرد على ذات منوال ردودي للرسائل التي تصلني، مرحبا بهذا التواصل، معتبرًا أن
اعجاب القارئ بمقالي ما هو إلا مجرد اطراء كبير بحقي، قد لا استحقه.
ثم
ضغطت على أمر الإرسال، وعدت أفتح باقي رسائلي الإلكترونية.
***
كانت
سعادته كبيرة لا توصف، وهو يقرأ ردي، ويجد اهتمامًا مني برسالته السالفة، أخبرني
في رسالة ثانية، أنه يجد البلسم الشافي في الكلمات التي أكتبها، وقال لي عن عشقه
بقراءة مقالاتي، ما جعلني أعيد بذاتي هذه القراءة وأحاول اكتشاف ما تحمله من بلسم
شفاء أو معاني خفية لم أقصدها، جمعت الكثير من المقالات التي كتبتها في فترات
متفاوتة، ورحت اتتبع كل كلمة منها، وأحاول تقمص شخصية الأخر، وهو يتداوى بهذه
الكلمات..
كان
وصفه ذاك، في نظري، من قبيل المديح الزائد لا أكثر، وأنه يحاول أن يضعني في مكانة
لا قبل لي بها، ويدلل على إعجابه بي بطريقة مسرفة الوصف والمعاني.. ولذلك أرسلت له
رسالة أخبره أن مجاملته تفوق قدري ومنزلتي.. فما أنا إلا كاتب بسيط، أقتات من هذه
الفتاتات.. وليس لي مصدر رزق سواها..
وأضفت:
أن طبيعة عملي في الصحيفة هو الكتابة الصحفية بكل أنواعها.. وأنني أحاول أن أطور
ذاتي عبر القراءة والكتابة المستمرة.. معتبرا أن اطراءه ذلك، لا ينبغي أن يكون
حكما على شخصي الضعيف، حيث إنني ما زلت في البداية.. وأن أمامي طريقا طويلا للوصول
إلى صفة الكاتب الذي يقام وزن واعتبار لكتاباته.. وكالعادة ضغطت على أمر الإرسال..
ونسيت أمر الرسالة وصاحبها..
***
كان
يمكن له أن يكون قارئا عاديا بالنسبة لي.. وكان يمكن اعتباره من محبي قراءة الصحف
كل صباح، وأنه يفتش بين المقالات عما يستهويه من مواضيع، ثم يتسلى بعد ذلك
بالكتابة إلى أصحابها، والتباهي بينه وبين نفسه، أنه تعرف على هذا الكاتب أو ذاك،
وأنه استطاع أن يوجد تواصلا معه، وأن يتحاور ويتناقش في أمر كتاباته..
كان
يمكن اعتباره كذلك.. لولا أن رسالة تالية بعث بها لي، يسألني عن الغياب، وهو الذي أدمن
كلماتي، وتداوي بها من أسقامه، قال لي: إنه يقلب صفحات الجريدة كل صباح مفتشا
كالمجنون عن اسمي، حتى إذا ما لمحه احتضن الجريدة كعاشق متيم.. وحين لا يجد اسمي،
يشتد حزنه، ويكابده الأرق والألم.. كان يرجوني في رسالته تلك أن أواصل الكتابة..
لأنه يريد التعرف علي عن قرب، قال: أريد أن أشعر بوجودك قربي في كل حين، ولا سبيل
لي في ذلك غير كلماتك التي تلج بها إلى فؤادي دون استئذان..
وكشأن
الرسالة الأولى.. لم تحمل الرسالة الثالثة غير اسمه: علي.
ولم
يكن أمامي هذه المرة من وسيلة للتعرف على هذا الشخص.. والتأكد من حقيقته، سوى إرسال
عنواني كاملا، متضمنا رقم هاتفي، وقلت له إنني أرحب بالتعرف عليه في أي وقت، وإذا
ما كان قريبا من مبنى الجريدة، فإني أتشرف باللقاء به في المبنى، في الوقت الذي
يناسبه..
وقبل
أن أضغط على أمر الإرسال، كتبت له أيضا أن يرسل لي عنوانه.. واسمه الكامل.. وحتى
رقم هاتفه..
وطارت
الرسالة.. وهذه المرة، دون أن تطير من بالي.. معانيها.. وصفة صاحبها.. ومن يكون؟..
***
لا
أجزم أن مقالاتي التي تنشر في الصحيفة بين الحين والأخر.. يمكن أن تسبب كل هذا
العشق في ذات قارئ.. وتجعله يكابد الشوق في سبيلها، كانت معاني الإطراء والاعجاب
التي تردني تقابلها على الاتجاه الأخر رسائل استهجان ومقت ورفض للأسلوب والفكرة
والمعالجة التي تطرحها.. كنت حين أكتب، إنما أرضي غرور القلم الذي أمسكه، والذي
يخال له أنه عارف بخبايا الكلمة، وقادر على سبر أغوارها.. كم حاولت أن ألجم لثامه،
وأمسك حينا من الدهر، حتى يشحذ حبره، ويقوى فكره، وتشتد حروفه، لكنه كان ينطلق من
يدي كثور هائج لا يهدأ إلا لحظة الكتابة.. ثم إعادة قراءته بعد نشره في الصحيفة.
كنت
أجد في أحيان كثيرة صدى لهذه المقالات، صدى يتفاوت بين القبول والرفض.. لم يكن هذا
الصدى يتجاوز حدود الرسالة أو الرسالتين.. تحوي بعض المناقشات والرؤى ومن ثم..
يخفت بريق الكلمة بعد حين وجيز.
غير
أن علي القادم من المجهول.. المتلبس بالسر الخفي.. يأتيني ليرفع قدر كلماتي..
ويضعها في موضع أغبطها عليه.. وأرمقها بنظرة ريبة وشك حول دلالة ذلك..
كنت
أريد الالتقاء به للتعرف على كينونة هذا الشخص، وفلسفته في القراءة والحياة.. كنت أريد
الاقتراب من شخصية علي لأتبين حقيقة هذه الشخصية ومدى جديتها في قول ما لا يحتمل
قوله.
لكنه
في رسائله التالية، كان يتمادى الكشف عن شخصيته، معللا أن الوقت لم يحن بعد،
واكتفى بأن يقدم لي نبذة موجزة عنه، ومكان جلسته المفضل.. بين الثامنة والعاشرة
مساء أكون متواجدا في آخر طاولة في آخر مقهى في السيتي سنتر.. أتأمل ما حولي، من
وجوه، وأعيد قراءة مقالاتك في الصحيفة ـ إن وجدت ـ ثم أخرج إلى الشارع البحري أذرعه
مشيا لمدة ساعة، قبل أن أقفل راجعا إلى المنزل.
***
في
الساعة ذاتها.. في المكان ذاته، كنت أمرق وجوه المارة بحثا عن ملامح علي، كنت أطبق
الوصف والسمة التي أعرفها عن علي من خلال رسائله الإلكترونية إلي، على الجميع دون
استثناء، وفي كل وجه، كنت اكتشف بعضا من صورة علي.
في
المقهى الذي قال لي إنه يجلس فيه.. طلبت كوب قهوة، تلاه الثاني والثالث، دون أن أتوصل
إلى نتيجة، ودون أن أحقق مرادي من هذا البحث عن المجهول الذي أسلك دروبه..
كانت
نفسي تحدثني في بعض الأحيان: مالك ولـ(علي).. لو أراد أن يعرفك بشخصيته، لبرز الآن
لك، وهو من يراقبك في هذه اللحظة ويتسلى بهذه اللعبة التي يلفها حول عنقك، ويجرك إلى
عوالمه دون أن تدري.
لو كان علي شخصا معروفا لك.. لو قال عن شخصيته.. وكشف لك صورته.. لما سعيت إلى لقائه.. وتكبدت كل هذا العناء.. لكنها النفس مجبولة على خوض المجهول.. وعبور خباياه.
لو كان علي شخصا معروفا لك.. لو قال عن شخصيته.. وكشف لك صورته.. لما سعيت إلى لقائه.. وتكبدت كل هذا العناء.. لكنها النفس مجبولة على خوض المجهول.. وعبور خباياه.
كنت
أمام خيارين لا ثالث لهما.. إما أن أمضي في طريق البحث هذا.. أو أنسى علي..
واعتبره وهما لا وجود له، لكن كيف لي ذلك، وأنا الذي أتلقى في كل يوم منه رسالة أو
رسالتين، وفي كل مرة تنشر لي الصحيفة مقالا أجد علي أول من يبرق لي إلكترونيا
محييا كلماتي.. ومؤكدا أنها تبث في جسده الحياة.. وتساعده على التغلب على مرضه
اللعين..
ـ
أي مرض تقصد يا علي؟
ـ
قال لي الأطباء.. إنني مصاب بتلف في الكبد.. وأملي ضئيل في الشفاء.. وليس من سبيل أمامي
سوى نسيان الألم في الأيام الباقية من عمري.. والتزود من بسمات الحياة قدر الإمكان..
كلماته
الأخيرة كانت كافية لتقربني من شخصه أكثر وأكثر.. هذه المرة رجوته أن أتعرف عليه
عن قرب، وأن ألتقي به، لكنه وككل مرة قال لي: حتما سيأتي الوقت الذي تعرفني فيه..
وسأقول لك عن نفسي كل شيء.. كل شيء..
***
ذات
صباح نشرت الصحيفة مقالا لي.. هذه المرة هرعت إلى بريدي الإلكتروني، لأقرأ انطباع
علي، ورؤيته حول المقال.. لكنني لم أجد أي رد..
كنت على ثقة أنه يعرف أنني سأنشر هذا اليوم، وقد أخبرته في رسالة سابقة، عن الموضوع، وأعرف أنه في لهفة لقراءة النص، لكن كيف لي أن أعرف ما إذا كانت الصحيفة قد وصلته.. أم لا.. وهو الذي لم يؤكد على ذلك أو ينفي، بما يطمئن قلبي، ويهدئ ظنوني..
كنت على ثقة أنه يعرف أنني سأنشر هذا اليوم، وقد أخبرته في رسالة سابقة، عن الموضوع، وأعرف أنه في لهفة لقراءة النص، لكن كيف لي أن أعرف ما إذا كانت الصحيفة قد وصلته.. أم لا.. وهو الذي لم يؤكد على ذلك أو ينفي، بما يطمئن قلبي، ويهدئ ظنوني..
في
ساعة تالية.. رن هاتفي النقال.. كلمني أحد أطباء المستشفى السلطاني، وأخبرني، عن
حالة صديقي الذي لا أعرفه حق المعرفة.. ورغبته الشديدة في لقائي قبل أن .....، كنت
في تلك اللحظة مغادرا مبنى الصحيفة متجها إلى سكني عبر الطريق البحري..
صعقتني
كلمات الطبيب، وألجمتني حبيس فكر لا أعرف إلى أين يقودني.. دارت بي الدنيا.. وأنا أنظر
لـ(علي) في كل مكان حولي.. كان أقرب إلى نفسي مما أتصور، كان علي جزءا من كياني،
وهو بعض مني، وأنا أفتش عنه بعيدا عن نفسي، دون النظر إلى موضع قدمي، حيث يقف علي
منتصبا في مكانه، يمد ذراعيه ليحتضنني، وأنا أدور في كل الجهات إلا جهة القلب..
آه
يا علي..
ألم
تكفك كل اللحظات.. لتعرفني بذاتك، غير هذه اللحظة.
هل
كنت تخطط لهكذا حدث، وترسمه بحرفية، واقتدار..
هل
كنت صنيع كلماتي.. أم كنت كلمات ذاتي التي تشفي الفؤاد لحظة أن ينسكب مدادها على
الورقة..
آه
يا علي..
تأتيني
في لحظة اتسع فيها مدى الكون.. وما عدت أعرف موضعي..
في
لحظة الدوران الفلكي.. تلك.. كان صدى حديث الطبيب يتردد على مسامعي..
علي
مريض جدا.. هو الآن في العناية.. طلب أن يراك سريعا..
علي..
بعضي..
أنا..
كان
عليّ الالتفاف سريعا.. وتعديل مسار سيري جهة الشارع الرئيسي.. هناك غير بعيد مني
يتراءى المستشفى السلطاني.. وأنا بين جهات عدة تقودني إليه، دون أن أتمكن من
التحليق عاليا والوصول إليه سريعا..
زدت
من سرعة سيارتي.. اجتزت المركبات غير آبه بالوميض الذي تطلقه أجهزة رصد السرعة
المنصوبة كالفخاخ بين ضفتي الشارع.. كانت نبضات قلبي تسابقني.. والشارع من
الازدحام، ما يجعل النار تشتعل في جوفي حريقا.. لا يطفئها إلا لحظة لقاء المجهول،
الذي صار أقرب إلى ذاتي من أي شيء..
ركنت
سيارتي، دون أن أعير اهتماما للإشارة التي تحذر من الوقوف في ذلك المكان.. هرعت إلى
داخل المستشفى.. أصعد السلم سريعا.. أبحث عن غرفة العناية المركزة.. أقرأ الإشارات
الدالة إلى مكانها.. أجري بين ممرات المستشفى.. وصولا إلى بوابتها.. هناك أود لو أفتح
باب الغرفة على مصرعيه، واحتضن علي، أسأله أن يتشبث بالحياة، كي نكون معا.. وللابـ..
يمرقني طبيب.. أخاله عرفني من نظراتي الواجمة.. من خفقات قلبي المتسارعة.. من الدمع المنحدر من عيني.. من أقدامي التي لم تقدر على حملي.. من كل شيء يرتعش في جسمي..
يمرقني طبيب.. أخاله عرفني من نظراتي الواجمة.. من خفقات قلبي المتسارعة.. من الدمع المنحدر من عيني.. من أقدامي التي لم تقدر على حملي.. من كل شيء يرتعش في جسمي..
ـ
أنت....؟!.
ـ
نعم دكتور.. كيف حال علي؟..
صمت
برهة.. إنحدر دمعه هو الآخر.. نظراته أخبرتني بكل ما يود قوله.. هكذا حلق بعضي
عاليا دون أن أتمكن من التعرف عليه جيدا..
ـ
يمكنك أن تدخل لتلقي نظرة الوداع عليه..
الوداع..
لا يا دكتور..
لا يا دكتور..
لا
حاجة للوداع.. فنحن لم نلتق بعد..
وخرجت
دون أن أحقق الأمنية الأخيرة لصديقي.. والأمنية الأولى لي.. خرجت، وفي قلبي
ووجداني يسكن علي، أصبحت الآن أعرفه ويعرفني..
في كل مكان أتوجه إليه.. أجده يلوح لي مرحبا.. ابتسامته المتخيلة لا تفارقني.. ونظرته الحنونة تسكنني..
في كل مكان أتوجه إليه.. أجده يلوح لي مرحبا.. ابتسامته المتخيلة لا تفارقني.. ونظرته الحنونة تسكنني..
هذه
المرة عبرت الشارع البحري.. دون أن أتجه إلى منزلي.. كنت محتاجا إلى لحظة خلوة مع
ذاتي.. ومع طيف علي.. ولم أجد مكانا أفضل من الطاولة الأخيرة في المقهى الأخير من
مقاهي السيتي سنتر.
***
عزيزي
علي..
اليوم
تنشر الصحيفة لي مقالا جديدا..
أعرف
أنك تنتظرني بشوق..
لكن
شوقي إليك أكبر يا صديقي..
لا
يهمني أن أعرف من تكون.. طالما أن قلبك ينبض داخل جسدي.. ورئتي تتنفس هواءك.. فأسكن
فيهما خالدا للأبد.
مسقط ـ في 8 نوفمبر 2006م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق