أعترف في البدء أنني دخلت عالم الصحافة، دون حب مني أو شغف،
لم تكن الصحافة حلمي، ولا كانت أبدا في خاطري، ولم أنشغل قبل ولوجي عالمها، بتقليب
صفحاتها، وتتبع اخبارها، وبصريح العبارة: لم تكن الصحافة تعني لي أي شيء..
كل ما اذكره ان حارس المدرسة، كان يدخل علينا الصف المدرسي،
حاملا الصحف اليومية يبيعها للطلبة بسعر 50 بيسة، كان الفضول يدفعني في بعض الأحيان
لقراءة هذه الصحيفة أو تلك فأدفع الـ 50 بيسة ، وتظل تلك الصحيفة رفيقتي حتى ألتهم
كل أخبارها واقرأ كل ما كتب فيها، ومرة أخرى يكون ذلك في بعض الأحيان ومن دافع الفضول
لا أكثر.
لكنني بعد حين من الزمن لم يكن شيئا مذكورا، وجدتني في دهاليز
الصحافة، ووسط عالمها، ممتطيا صهوتها، مفتخرا أن القدر ساقني إلى هذه المهنة التي أحببتها،
وأخال أنها أحبتني، لذلك أبقت عليّ في حين هاجر الكثير من الزملاء هذه المهنة، ولا
أقول تنكروا لها، ولكن ابتغوا عنها بديلا.
وأعود لأعترف بشيء آخر: وهو أن دخول إلى عالم الصحافة، كان
مرده أول مرة بعض الكتابات التي كنت انشرها في صفحات بريد القراء، ورغبتي أن أكون أكثر
قربا من النشر، واتابع كتاباتي بنفسي، دون الحاجة إلى الاتصال بمحرر الصفحة وانتظار
رده وتعليقه على ما كتبت.
كنت أرغب أن أنمي هذه الموهبة، واطورها قدر الاستطاعة، ولم
يكن ذلك يسيرا على شخص مثلي يوفر من مصروفه اليومي قيمة كتاب يقتنيه، أو مجلة يواظب
على شرائها كل حين، فمكتبة المنزل قد لا تحوي الكتب التي أتوق إلى قراءتها، ولا تتوفر
فيها ما يشبع نهمي من قصص وروايات أدبية واشعار حديثة ومؤلفات في الأدب العربي.
ولن أطيل في حكايتي مع الكتاب، ولا شغفي بمكتبة المدرسة المتواضعة،
ولن أتحدث عن المكتبة المتنقلة التي كانت تقف قبالة السوق وهي تبيع اصدارات وزارة التراث
القومي والثقافة ـ حسب مسماها حينذاك ـ، أو مكتبات السوق الحافلة بعناوين الكتب والاصدارات
في شتى العلوم والآداب، فلهذا حكايته، التي لا أريدها أن تأخذني من فكرة أنني اصبحت
صحفيا.. دون فطرة.
أقول ذلك، وأنا اتذكر عدم استهوائي للصحافة المدرسية، ولا
لجماعتها التي لم انضو فيها أبدا، ولا اتذكر أنني أتقنت اعداد صحيفة حائط، فكل ما كان
يتم هو ملء فراغات بيضاء بكتابات من هنا وهناك، هذه الكتابات هي ما كان يستهويني، وليس
وضعها على صحيفة حائط وتعليقها داخل الصف أو في ممرات المدرسة.
في عالمي الجديد الذي ولجته، اكتشفت أنني لم أبتعد كثيرا
عن عشقي للقراءة والاطلاع، فقد كانت ثمة متعة أخرى تضاف إلى هذا العشق، وهو التعرف
على الكتاب والأدباء الذين قرأت لهم، أو تعرفت على اسمائهم وابداعاتهم الفكرية والأدبية.
حدث ذلك أولا حين طُلب مني تغطية حدث تشكيلي في الجمعية العمانية
للفنون التشكيلية، وكانت المرة الأولى التي أتعرف فيها على هذه الجمعية، يومها ذهبت
إلى مقرها الكائن حينئذ في الخوير، وسألت هناك عن مدير الجمعية الذي لا اعرف حتى اسمه.
كانت مفاجأة كبيرة، حين وجدتني أمام أديب عماني قرأت بعض
رواياته وقصصه، وترسخ اسمه في ذاكرتي، كما ترسخت صورته التي كان ينشرها في الغلاف الأخير
لإصداراته، ومعه كانت فنانة تشكيلية كويتية، وهي الأخرى كاتبة وقاصة معروفة في بلدها.
كان سعود المظفر واحدًا من الذين قرأت لهم، ضمن مجموعة من
الكتاب والأدباء العمانيين، وعرفت أنه يعمل مديرا للجمعية العمانية للفنون التشكيلية،
وقد توثقت علاقتي به منذ لقائي الأول به، وتعرفت حينها بالتشكيلية الكويتية والكاتبة
القصصية ثريا البقصمي.
ولم تتوقف متعة العمل الصحفي عند هذا الحد، فقد توسعت علاقاتي
ومعرفتي بالكثير من الكتاب والأدباء محليًا وعربيًا ودوليًا، على مدار سنوات العمل
الصحفي، وهذا واحد من الأسباب التي تجعلني ممتنا لهذا العمل، ومفتخرا به.
أقول مفتخرا، والسؤال الصادم الذي يواجهني كل مرة، عن مدى
رضائي عن حال الصحافة المحلية، ولماذا هي غارقة في الخطوط الحمراء، وتهيم في واد غير
ذي زرع، ولا يكاد يسمع صوتها أحد، فهي لا تعطي لقضايا المواطن وهموم المجتمع أي أهمية،
بجانب اهتمامها بالأخبار الرسمية المعلبة التي لا تسمن ولا تغني من جوع المعرفة.
وكم سائل يقول عن اندثار دورها، مع بروز الصحافة الالكترونية،
وإن عهد الصحافة الورقية قد ولى، ولم تعد بذلك القبول الذي كانت عليه قبل بضع سنوات.
أما ثالثة الأثافي فهي سماعك لشتى أنواع الشتائم والقذف بحق
الصحافة المحلية، واتهامها بتهم ما أنزل الله بها من سلطان، لأسباب عدة ليس أولها ولا
آخرها ما تنشره الصحيفة من اراء وكتابات ومواضيع يعتبرها البعض موجها، والبعض الآخر
مسيسا، والأكثر انحيازا، وهنا أتحدث تحديدا عن المواقف السياسية التي تصبغ هذه الصحيفة
أو تلك، ووجهة النظر التي تتبناها من قضايا ومواقف تتباين فيها الاراء.
ولن أسهب في الدفاع عن وجهة نظر كل صحيفة، وماذا يعني موقفها
هذا، أو ذلك، وهل صحافتنا مقيدة أم مسرحة، ولماذا تطبل أكثر مما تعري، ولماذا ولماذا؟..
فما يهمني هنا أنك كصحفي فرد لا قيمة لك، طالما لا قيمة لمؤسستك الصحفية، والحال ذاته
طالما لا قيمة لانتمائك إلى هذه المهنة، واشتغالك فيها، فماذا يعني: أنك صحافي؟
ماذا يعني أنك صحافي؟.. حين يطلق الكل سهامه جهة الصحافة،
بل ويستنكر البعض انتماءه السابق إلى هذه المهنة، ويحمد الله تعالى أن خلصه منها، وفك
حصاره، وأطلق حريته، ويأخذها بجرم سيئة واحدة، وينسى باقي الحسنات.
إن من يتحدث عن الوضع المزدري للصحافة ـ على حد تعبيره ـ،
وانحسار دورها، يحكم من واقع رؤيته الخاصة، وفق القناعات التي يشكلها بنفسه، دون اعتبار
لقناعات من حوله، حتى على محيط أوسع من محيطه، فإذا كانت الصحافة الالكترونية قد برزت
بشكل أكبر، واستطاعت نقل الخبر في حينه، إلا أن قيمة الصحافة الورقية في هذا المجال
لم تخفت، فالخبر إذا كان قد وصل إلى الجمهور لحظة وقوعه، فتحليل هذه الخبر وقراءة ابعاده
وما وراءه، وحتى تفاصيله قد لا تتاح في المواقع الالكترونية، قدر ما هي متاحة في الصحافة
الورقية.
وأما بشأن الاراء والكتابات في الصحافة الورقية، فإنها لا
تطمس ولا يمكن تغيرها أو استبدالها بعد نشرها، ولا يمنحها أي فرصة للتراجع والعودة
بعد النشر، عكس الصحافة الالكترونية، وهذا في رأيي يبرز أكثر مواقف الورقية من
الالكترونية.
لقد قلتها ذات مرة في ندوة وجدت نفسي مدافعا عن الصحافة الورقية،
رغم ايماني بدور الصحافة الالكترونية وقيمتها، وأهميتها ـ لاحظوا أنني انشر هذا
المقال في صحيفة الكترونية ـ، أن الأثنين مكملان لبعضهما البعض، والصحافة الالكترونية
جزء من الاعلام الحديث، هذا الاعلام الذي يدفع الصحافة الورقية للتقدم، والتطور واللحاق
بركب المنافسة، كما أن الأخيرة تحتم على الصحافة الالكترونية التقدم، وتطوير
أدواتها، والثبات في ركب المنافسة، وفي اعتقادي أن الصحافة بشكل عام لم تتراجع عن هذا
الدور، وتبنت الكثير من القضايا الاجتماعية وناقشتها على نطاق أوسع، وكان لها
التأثير الأكبر، أكثر مما هو متاح بالنسبة للصحافة الالكترونية.
إن نظرتنا للصحافي، وتقديره لن تكون، إلا إذا أمنا بدور الصحافة
ورسالتها، والأخيرة مردها للصحافي نفسه، وفي اعتقادي هناك الكثير من الصحافيين البارزين
والنشطين، كما أن هناك صحافيين كسالى ولا يكاد يسمع لهم صوت، فالصحافة حالها كحال مهن
كثيرة، من الصعب أن نحكم بفشلها بوجود قلة لا هم في العير ولا في النفير، وسيئاتهم
أكثر من حسناتهم.
علينا أن ننظر لحال الصحافة الورقية والالكترونية وسائر وسائل
الاعلام، كما ننظر لحال الكتاب الورقي أمام نظيره الالكتروني، لكل جمهوره وعشاقه، وهو
ذاته ما ينطبق على حال الاذاعة والتلفزيون التي لم يسرق أحدهما الآخر، وظلا محافظين
على قيمتهما ومكانتهما، كوسائل اعلامية تحظى بالمتابعة.
واخيرا .. إذا كان ثمة اخفاق للصحافة، أو قصور، فلا يعني
عدم وجود نجاح لها، وعلينا أن نقيمها كوحدة واحدة لا نفصلها عن بعضها، لنطلق أحكاما
استثنائية، ذلك من جانب القراء، أما من جانب المشتغلين فيها، فعليهم أن يعوا أن المنافسة
قد اتسعت، وعليهم أن يطوروا من ادواتهم، ويفتح منافذ اوسع على العالم من حولهم، فالتسارع
على أشده، والمنافسة حامية، ولن يكون لهم السبق طالما أنهم قابعون في مكاتبهم المغلقة،
ينتظرون وصول الخبر إليهم، دون أن يقوموا من مكانهم، أو حتى يفتحوا شاشة العالم الموضوعة
على هواتفهم أو في حواسيبهم، ليقولوا إنهم هنا: صحافيون.. صحافيون.
مسقط ـ في 4 ديسمبر 2012م