الاثنين، 11 أغسطس 2008

مـات فخجـل من دمـع أمـه




أحنُّ إلى خبز أمّي
وقهوة أمّي
ولمسة أمّي..
وتكبر فيَّ الطفولة
يوماً على صدر يومِ
وأعشق عمري لأنّي
إذا مُتّ،
أخجل من دمع أمّي!
محمود درويش
(1)
وقد سال الدمع .. وارتحل الفارس تاركا الحصان وحيدا، كانت لحظة الفراق هذه، بكائية كما هي البكائيات التي تضج بها كلمات الفارس، التي رغم الحزن والألم الطافح فيها، تبقى شامخة، صامدة، مكابرة، لا تستكين للهزيمة ولا ترضى بالذل والخنوع.
كان خبر الرحيل، صدمة كبيرة، أفقنا منها للحظات، ثم كان الخبر اليقين.. محمود درويش مات..
هذا الشاعر الذي قدر له أن يعيش بين المنافي والسجون، يحمل على أكتافه عذابات اغتصاب الأرض، وتدنيس الحرمات.. يحكي بإصرار الواثق من العودة إلى الوطن، ليعيد تشكيل الطفولة والحكايات الجميلة.. يرحل هذه المرة، رحيلا أبديا، وكأني بالموت يطرق بابه، ويتكئ قرب سريره، يستمع آخر قصائده، قبل يطوقه، ويعلن ساعة الرحيل.

(2)
لم يكن يريد أكثر من طوق الحمامة وشارع ضيق..
لم يكن يريد أكثر من حياة حقيقية يعيشها متحررا من ضغط الواقع والأسطورة..
لكن ذلك كان بعيد المنال..
لكنه ليس بالمستحيل..
كان كما العودة الأزلية إلى الأرض المقدسة..الأرض التي بورك فيها..
هناك في الجليل، كانت تفوح رائحة الوطن، ورائحة الأم، وما بينهما ارتباط وثيق، يكمل بعضهما بعضا.. بين الحنين للوطن، والحنين للأم، تبزغ قصيدة تنطق عن هوى القلب، وشغافه، وتسابق لعناق دائم، يضم الجسد في الأرض المباركة.. كان يزداد قربا من وطنه وأمه كلما ابتعد عنها.. لتكبر ملحمة خالدة، تخلد بخلدوها قضية الوطن، الذي صار مغتصبا، والشاعر الذي صار منفيا..

(3)
في أحد حواراته لم يخف محمود درويش خوفه من الموت.. لكنه عاد مؤكدا إنه لم يعد يخشاه كما كان من قبل..
ثم نظر إلى الموت المتربص به، المتحاور معه، في ميتافيزيقية دينية وفلسفية، كان الموت يحيط بمحمود درويش منذ أن قذف رصاصته/ كلماته الأولى، منذ أن علا صوته جهارا بحق العودة، وحق الوجود.. صار مطاردا.. ومنبوذا من العدو.. إطلالته كفيلة ببث الرعب في أعدائه.. وحين يواجهه الموت، يشير إلى قلبه وهو يخاطب المنون: اقتل هذا، ولا تقتل كلماتي..
محمود درويش الذي كان يحب الحياة البسيطة، كان يخاف من الموت الذي يشل القدرة على الكتابة، وعلى الحياة، وكانت في المخيلة ترتسم صورة الشاعر معين بسيسو الذي مات وحيدا في الفندق، دون أن يعرف عنه أحد.. بعد ما أغلق غرفته، وحط على بابها إشارة "الرجاء عدم الإزعاج".. فإزعجنا الموت برحيله..
أخشى موت قدرتي على الكتابة..
وغير ذلك لا شيء..
لا شيء يخيف الشاعر الذي ظل في مواجهة دائمة مع الموت، وظل الموت محورا للكثير من اعماله وابداعاته.. وفيه كتب ابدع نصوصه.. "أيها الموت انتظرني خارج الأرض لم، يعد أحد من الموتى ليخبرنا الحقيقة.. أيها الموت انتظرني خارج الأرض انتظرني في بلادك ريثما أنهي حديثاً عابراً مع ما تبقى من حياتي قرب خيمتك، انتظرني ريثما أنهي تدابير الجنازة في الربيع الهش حيث ولدت حيث سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين وعن صمود التين والزيتون في وجه الزمان وجيشه".
(4)
لم تكن المرة الولى التي يفتح الأطباء فيها قلب محمود درويش.. وينظروا صورة الوطن المحفور في شريانه.. كان في كل مرة يفوق فيها يكتب رائعة، تشير إلى صراعه الأزلي مع الموت، ومقارعته له، يهزمه، فينتصر عليه..
في جدرايته الرائعة.. كتب ذات إبداع.. "هذا هو اسمك.. قالت امرأة وغابت في الممر اللولبي.. أرى السماء هناك في متناولِ الأيدي.. ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب طفولة أخرى.. ولم أحلم بأني كنت أحلم".
كل شيء كان متوقعا لدرويش.. إلانا.. لم نعرف إن الأطباء بعدما فتحوا قلبه للمرة الأخيرة، وجدوا أن وطن كبر، وما عاد البعد عنه يجدي.. لذلك.. آثر محمود درويش أن يموت الجسد، ليرقد في الجليل، حيث رائحة الأم ورائحة الوطن.. مات محمود درويش، وبقيت الكلمات خالدة.. تقارع الأعداء.. خذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة.. وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفو.. إنكم لن تعرفوا.. كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء..

(5)
في لقاء يتيم جمعني به وجها لوجه، خانتني الكلمات، وتلعثم لساني عن النطق حتى باسمه، وجدته هكذا فجاءة امامي، بقامته الشامخة، بكبرياء الشاعر، وعنفوان القصيد الذي يكتبه، كنت احاول لم حروفي، وربط كلماتي..
ولم أستطع إلى ذلك سبيلا..
كل ما قمت به، إنني نظرت إلى وجهه، وقرأت في قسماته، ما أقرأءه في قصيده، نظرت الى خبز أمي، والى يوسف واخوانه، والى المارون عبر الكلمات العابرة، والى الحصان الذي ترك وحيدا.. والفراشة التي لم يعد لها أثر.. الى الحصار المرتسم في عينيه، الى المنافي التي تتقاذفه في دهاليزها.. وحقيبته التي يحمل بدخلها بطاقة هويته العربية..
ونظرت الى الأرض المقدسة.. والى الذين اسقطوا اسمها من جواز السفر..
وقرأت بين عينيه، لغة المنفى والبعد عن الوطن، وكأني بالدمعة التي انساحت ذات صباح من عينيه، والتي هلت لأن ثمة وطن محفور في قلبه، لم يعد في مكانه.. لأن بيته الذي شهد طفولته لم يكن هناك.. ولم يكن هناك اصدقاء الطفولة، ولا وجد ضحكاتهم.. وحكاياتهم البريئة..
وحيدة..
امه تنتظره..
كما تنتظر عودة الأرض.. وازهار الياسمين والبرتقال.. يناجيها.. خذيني أمّي إذا عدت يوماً وشاحاً لهدبك.. وغطّي عظامي بعشب.. تعمّد من طهر كعبك.. وشدّي وثاقي.. بخصلة شَعر.. بخيطٍ يلوِّح في ذيل ثوبك.. عساني أصير إلهاً.. إلهاً أصير..إذا ما لمست قرارة قلبك!.

(6)
كان محمود درويش ينظر إليّ في ذلك اللقاء اليتيم.. وهو ينتظر نزول المصعد ليقله الى الطابق الرابع، حيث تلتئم اسرة "كتاب في جريدة" التي كان واحدا من افرادها.. واعمدتها الذين يمضي المشروع التنويري، شاقا طريقه نحو اهداف وغايات جليلة اقلها تنوير العقل العربي، ونشر الثقافة المعرفية في الوطن العربي، واهداف أخرى عديدة..
كانت ارقام المصعد تتوالى.. وأنا بين الرقم والآخر.. ادعو الله تعالى أن يتأخر وصوله إلينا، كيما أقرأ ما استطيع من كلمات.. واغوص في يمّ المعاني.. واردد معه لاشعوريا.. سجل... انا عربي.. واعمل مع رفاق الكدح في محجر.. واطفالي ثمانية.. اسلّ لهم رغيف الخبز والاثواب والدفتر.. من الصخر.. ولا اتوسل الصدقات من بابك.. ولا اصغر امام بلاط اعتابك.. فهل تغضب؟..
(8)

المصعد يفتح..
يدخل محمود درويش..
أدخل أنا..
ويتحرك المصعد.. لكن روحي ظلت معلقة في الجسد المقابل لي، أناظره، قبل أن أتلقى ابتسامة وجيزة، أحضنها بتروي.. وأشم فيها انفاس المحارب الذي لم يشاء أن يترك الحصان وحيدا، دون أن يشهر سيفه/ بطاقة هويته، ويعلنها بكل اعتزاز.. أنا عربي.. ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْا..
يآآآه .. أي قدر هذا يجمعك بقامة شعرية كبيرة، ولا تقوى على النبس بنبت شفة.. والكلمات لا تفارق شفتيك، وكل ما تقدر على فعله، رسم ابتسامة تحية، تتمنى لو لم تفارق وجهك.. تنظر جهة الأرقام.. تحسبها تمر مر السحاب، وهي تتبدل كلمح البرق..1..2..3.. 4..
يتوقف المصعد..
يفتح الباب.. ينظر إلي ثم يمد يده مشيرا إلى الخارج
ـ تفضل.
ـ ....
 (9)
لا أدري كينونة الأقدار التي تقذفنا للقاءات وجيزة.. في لحظات عابرة، تغادر الذاكرة سراعا كما جاءت كذلك..
أعرف محمود درويش عبر اشعاره ونثرياته، وكثيرا ما استمعت إليه وهو يقذف رصاصه جهة المغتصب، ويبث العزيمة والحماس في قلوب قراءه ومستمعيه، كان يرفع يديه ـ المفارقة إن الصورة التي ارتسمت في خيالي، هي ذات الصورة التي ذكرتني بموته ـ وهو يقول: كم كنت وحدك.. كم كنت وحدك.. هي هجرة أخرى.. فلا تكتب وصيتك الأخيرة والسلاما.. سقط السقوط، وأنت تعلو.. فكرة.. ويدا.. وشاما!.
وانهض من مكاني عن بعد..
اشعر إنه يستحثنا للإعتزاز بالنفس..
للوثوق بالغد القادم، الذي يندحر فيه المغتصب وتعود الأرض ترفل بثمار الزيتون والبرتقال.. ويعود الفارس إلى الجليل، يسبقه شوق الحنين الى خبز امه.. والى كرمات العنب ورائحة البنفسج والياسمين.  وحكايا الطفولة.. كأنّي أعود إلى ما مضى.. كأنّي أسيرُ أمامي.. وبين البلاط وبين الرضا.. أعيدُ انسجامي.. أنا ولد الكلمات البسيطة.. وشهيدُ الخريطة.. أنا زهرةُ المشمش العائلية.. فيا أيّها القابضون على طرف المستحيل.. من البدء حتّى الجليل.. أعيدوا إليّ يديّ.. أعيدوا إليّ الهويّة!.
(10)

في 10 اغسطس 2008 اختطف الموت شاعر آخر، بعد أن تربص به طويلا..
هزمه فانتصر عليه ..

مسقط ـ في 11 أغسطس 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق