لا تقل إنها أَضْغاثُ أساطير
للحكاية في حارتنا رائحة الكيذا.. هي عبق
المكان يفوح شذا يلثم الأنفاس العابرة، ويأخذهم في مداراته، يحفر في الذاكرة صور
الشخوص وصيرورتهم، حتى يخيل لك وأنت تمضي في دروب الحارة، أنهم معك.. قريبون منك،
يسمعونك وتسمعهم، يحكون لك حكاياتهم، ويرون أخبارهم.
حين تمر ـ مثلا ـ على مدرسة القرآن، ستلمح
المعلمة جوخة جالسة في مكانها، تحفظ سور الكراس للصغار، ويتناهى إلى مسامعك أصوات
قراءاتهم، وحين تمضي قريبا من مسجد الحارة، سترى جماعات من الناس تؤم المسجد،
وتتآلف بعضها البعض بعد الصلاة، ينشدون عن أحوالهم ويسألون عن أخبارهم.
حارتنا تصنع الحكاية..
في كل ركن ثمة حكاية.. حكاية الشخوص الذين يعبرون
طرقات الحارة، يجوبون المنازل، وينثرون رائحتهم على الشواهد والمعالم، من مدرسة
تعليم القرآن حتى المسجد، ومنازل الحارة، والبستان، كل شيء هنا يقول الحكاية،
وينبئ تفاصيلها.
ولا تنتهي الحكاية.. إنها دوامة مستمرة من
الأحداث، كلما أذنت فصولها بالانتهاء، تفتقت عن أحداث أخرى، وتكشفت عن أمور جديدة،
ستسمع منا كلاما كثيرا، لن ينتهي عند حد معين.. فالشخوص تتناسل، والأمكنة تتغير،
والأحداث تتطور، كل شيء يتغير ويتجدد في حارتنا، وللحكاية روايات كثيرة، كلها تؤدي
إلى ذات التفاصيل.
اقترب من هنا..
انظر إلى هذه النافذة، هل ترى وجه الكرامة
المنبعث من
داخلها، هل تشعر براحة تسري في أوصالك، هنا تسكن سلاموه، لا نعرف ما
الذي جاء بها لتستوطن هذه الغرفة من هذه
الدار.. دارنا التي حدثتك عنها.
إنها طمأنينة تجدها سلاموه في دارنا، وترسلها
للصالحين الذين يذكرونها في السراء والضراء، الذين يأتون إليها محملين بهدايا
الطيب والعطور، يحتفون بها، لتحتفي بهم، وتهل بركاتها عليهم.
إن لسلاموه مقاما واحدا، تعرفها كلما اشتد
مصابك، وتزايد بلاؤك، قف عند النافذة، وامسح بما تجود به نفسك عليها، واطلب الصفح
والغفران، ثم عد مطمئن البال.
غير أن لواحدة أخرى ـ لم أخبرك بها ـ، مقامات
عدة.
لم أقل لك عن الحبشية.. ولم أخبرك حكاياتها
مع حارتنا، كما لم أخبرك حكاية الغريب الذي استوطن حارتنا، وعاش بيننا، وأحواله
معنا.. وحكايات كثيرة أود أن أسردها على مسامعك.. أنت القادم إلينا مضرج بالدهشة،
محفوف بالانبهار، تطلب المزيد والمزيد عن حارتنا.
حارتنا.. حارة سلاموه والحبشية، والتناقضات
الغريبة والعجيبة، المتناثرة شرقا وغربا.. لا تكاد تخرج من دهاليز حكاية، حتى
تتلبسك حكاية أخرى..
أراك تقف قريبا من نافذة سلاموه، تسألني عن
الحبشية.. انتظر ثمة حكايات أكبر منها، عليك أن تعرفها أولا.
***
في مواسم المطر.. في فصول الخصب والنماء،
تفرح حارتنا، نصعد إلى أسطح المنازل لنبتل بالماء، ونتدثر بفيض السماء، نردد الأناشيد
ونصدح بالغناء، ونطلب المزيد.
من البعيد نرى نخيل بستان الحارة وأشجاره،
وهي تتعانق مع قطرات المطر، نرى الفرحة في الأشجار كما هي الفرحة في قلوبنا،
فترتفع أصواتنا بالتهليل والتكبير، كانت فرحة الأمهات كبيرة، وهي تراقب أفئدة
الصغار تلهج بالشكر والدعاء إلى المولى أن يسقي البلاد، ويغيث العباد، وتعود أرض
البستان مخضرة، كما نحبها ونتمناها.
وحدهم الرضع من يحرمون عناق المطر، وانسكاب
الماء على أجسادهم، تقول أمهاتنا إن المطر حين يسقط على الصغار الرضع، يلوي ألسنتهم،
وقد يصبحون بكما، ولذلك تهرع الأمهات إلى ضمهم ودسهم ساعة الغيث.
لا تقل لي إنها أضغاث أساطير.. لدينا حكايات
عن صغار فقدوا النطق لأن المطر لامس ألسنتهم، نعرفهم كثيرا من روايات تصلنا من
الحارات القريبة.
إنه إيمان مترسخ في ذواتنا، لن تغيره أقوال
من يختلف معنا في ذلك.. يقول والدي إن الحكاية ذاتها تتناسل بين الحارات، والإيمان
بالمعتقدات والغيبيات ذاته، نحن لا نود الخوض كثيرا في ذلك، يكفينا أن نعرف
المعنى، فنتبعه، ونعي القول فنطبقه.
ولن أحكي لك عن "نكسة الدنيا" ليلة
القدر، فستعدها هي الأخرى من تخاريف القول.. ولا الدابة التي تأكل القمر ليلة
خسوفه.. فأنت ما زلت تنتظر مني حكاية الحبشية التي ظهرت أكثر من مرة لنساء
حارتنا.. دون أن تصدنا عما نحن فيه..
***
الحبشية.. الاسم الذي يتردد على مسامعنا بشيء
من الخوف والوجل، خوف لا يشبه إلا أصوات الليل التي تنبعث من الدروب والبيوت
المهجورة، دون أن نعرف مصدر الصوت، وفحواه.
تتناقل حكاياتها بهمس خافت، لتقول إنها ظهرت
ذات مرة
لامرأة وهي تغتسل في مجازة الفلج، وظهرت لأخرى وهي تسكب الماء على جسدها
في الشريعة، وقامت بترعيب أخرى وهي ماضية في دربها.. وهكذا، تتوارد حكاية الحبشية
دون أن نعي مآربها، ولماذا تظهر هنا ولا تظهر هناك، وتخرج لهذه ولا تخرج لأخرى.
إنها إرادتها وحدها، لا اختيار لنا فيها، كل
ما تقوم به النساء اللواتي تظهر لهن، الهرب، والتدثر في منازلهن، حتى يذهب الوجل،
وتسكن القلوب، وتطمئن الأفئدة.
ولأن الحبشية ليست من حارتنا.. ولا نعرف لها أصلا
ولا فصلا، فإننا لا نتقرب منها، ولا نقدم لها القرابين، إلا فيما ندر، تذهب إحداهن
إلى مجازة الفلج، فتضع قليلا من العطور والعود على ناصية، أو تشعل البخور قريبا
منها، وهي ترد الماء وتغتسل، درءا لمواجهتها وغضبها.
الحبشية لا تظهر كثيرا.. لم يشاهدها أحد،
إنهم يشعرون بها لا أكثر، وستكذب نسوة الحارة لو قالت لك غير هذا الحديث، يقول
رجالنا تعليقا على أحاديث النساء حول حكايتهن مع الحبشية، إنهن يذهبن إلى مكانها
غير طاهرات، فتشمئز منهن، وتطردهن من ذلك المكان.
الحبشية غير سلاموه.. وسلاموه غير الحبشية،
وما بينهن تتوه الحكايات.. تتناقل بين الألسنة، فتتوالد بكيفيات ومرويات مختلفة..
عليك أن تعرف حارتنا أكثر، لتعرف أن لدينا ما هو أهم من سلاموه والحبشية، لكنهن
النسوة لا يجدن ما يقطعن به أحاديث الصباح والمساء.
***
حارتنا حكاية واسعة.. شاسعة التفاصيل، حدثتك
عنها الكثير، ونسيت الأكثر، في زحمة الحديث نسيت أن أحكي لك عن سعدون المجنون، لم
يخطر ببالي أن أمره يهمك، أنت القادم لأشياء بعينها في حارتنا.. وسعدون ليس من
حارتنا، إنه من حارة أخرى، لكن دروبنا تعرفه، وشخوصنا تلتقي به بين الحين والآخر.
سعدون المجنون لا يؤذي أحدا، إنه مسكين، هكذا
نقول كلما صادفناه في طريقنا، والتقينا به، يذهب بعضنا ليصافحه، والوجل يتصاعد في
فؤاده، ثم يستكين لحظة أن يتركه سعدون ولا يؤذيه.
يحمل سعدون كوبا معدنيا، يضع عليه بضع حصيات،
يقرقحها، فنعرف مقدمه ومروره قريبا منا، يضحك سعدون كثيرا، نراه يجري في بعض
الأحيان، ويمشي الهوينا في أحيان أخرى، في لحظات أيضا نراه يصفق بجناحيه ويطير كما
العصافير، يردد كلمات على ايقاعات لا يعرفها سواه.
حين سألت والدي عن سعدون، قال إنه مسكين،
وحين شاهدنا المعلم جمعة ونحن نقترب منه، نهرنا وقال لنا: ما لكم وللمسكين..
في المساءات.. وقبيل الغروب يظهر سعدون، يجوب
الحارات، من حارة إلى أخرى، يقرقح حصياته، وهو يضحك، دون أن نعرف سبب ضحكه.
قالت نسوة في حارتنا: إن سعدون شعر ذات ليلة
رمضانية بليلة القدر، وشاهد انتكاسة الدنيا، وتحول عاليها سافلها.
ضحكنا كثيرا عليه، وحين عرف المعلم جمعة بأمر
سخريتنا، نهرنا مرة أخرى وقال: إن الرضع والمجانين يرون ما لا نرى، ويشعرون بما لا
نشعر به، الدنيا تتكشف لهم، كما لم تتكشف لنا.
ومضى إلى طريقه.. أما نحن فقد شرعنا نبحث عن
سعدون، لنسأله أكثر عن الدنيا وهي منكسة عاليها سافلها، حالها.. وأحوالها، ضحك
سعدون، وقرقح حصياته، ثم طفق يجري بعيدا عن حارتنا.
***
حارتنا تستقبل الغرباء، يصبحون جزءا منا.. لهم ما لنا
وعليهم ما علينا، ذات يوم جاءنا غريب، ـ مثلك تماما ـ لم نعرف مقصده ووجهته،
ترصدناه بأنظارنا، ثم اقتفينا أثره، حتى وصل قريبا من دارنا، وهناك وقف، ظنناه أول
وهلة، إنه يقصد سلاموه، ويبتغي بركاتها، فتركناه لحظة ينعم بقربها ودفئها، وحين لم
يعر النافذة اهتماما، اقتربنا منه، حتى صرنا قبالته، حينها التفت إلينا، وسألنا عن
بن منصور.
كانت أصابعنا تشير جهة دار بن منصور، وتهرع لأخذ الغريب إلى
طريقه، وإرشاده إلى السكة التي تقود إليه، كنا صفًا واحدًا يأخذ الرجل ناحية دار
بن منصور، والرجل بيننا حائر من هذا الكرم الطفولي الذي وجده في حارتنا.
ادخل بن منصور ضيفه داره، وبقينا نحن خارجا ننتظر من
يأتينا بسر هذا الرجل وحاجته، وما يريده من بن منصور.
وحين خرج واصل طريقه، وهو يمطرنا بكلمات الشكر، على كرمنا
معه، ولم ينبس ببنت شفة، حتى بن منصور لم يقل هو الآخر شيئا، وظل سر الغريب مدفونا
زمنا، حتى جاءت الأيام التالية وكشفت كينونته.
بعد صلاة العصر، وفي دار بن منصور اجتمع والدي والعم
مسعود والمعلم جمعة وسليمان ود خميس ومحمد ود سالم، ورجال آخرون لم يشر إليهم والدي
في حديثه الذي استرقته من حديثه مع ود النحاس وصالح
ود جمعة.
عرفت
من حديث والدي أن الغريب الذي جاء إلى حارتنا، كان يود شراء منزل عائشة أم البنين،
أو استئجاره، كان الغريب يريد أن ينتقل إلى الحارة ليصبح واحدا من أهلها.
قال
والدي: إن الرجال اختلفوا بين مؤيد ومعارض، كان من الصعب عليهم تقبل رجل غريب لا
يعرفون له أصلا وفصلا، ويصبح بين ليلة وضحاها واحدا منا، له ما لنا، وعليه ما
علينا.
فيما
رأى البعض الآخر، أن الخيرين من الرجال، سيماهم في وجوههم، تعرف في ملامحهم أثر
العشرة الحسنة والجيرة الصالحة، والغريب منهم، وقد ارتاحت له نفوسهم، واطمأنت إليه
قلوبهم.
بعد
حين من الزمن.. جاءنا الغريب، رأيت ود منصور والمعلم جمعة يتقدمونه، ومن خلفه كانت
ثلاثة حمير تحمل متاعه وعائلته، كانوا خمسة أشخاص، الغريب وزوجته وولد وبنتان.
عرفنا
أن الغريب يدعى خليفة الشمار، كان يحترف دباغة الجلود، لكننا لم ندعه قط باسمه
هذا، ظل الغريب اسما ملازما له، ردحا طويلا من الزمن.
***
لم
يقل لنا أحد، لماذا تعيش سلاموه بيننا، وما الذي حبب إليها حارتنا، وهل هي من الجن
أم من الشياطين، هل هي تقية من أولياء الله الصالحين، أم شقية من الشياطين، تتوعد
من لا يكرمها بالويل والثبور.
حدث
أن ولدت زوجة سليمان ود خميس ذات مرة، ونسيت أن تقدم قربانها لسلاموه، حدثتها نسوة
الحارة عن أهمية أن تذهب إلى سلاموه، وتعطيها بعضا من العنبر والبخور، وتسكب على
نافذتها الصندل والعطور.. تلكأت زوجة سليمان في القدوم إلى سلاموه.. فكان أن أصيب
رضيعها بالصفار، وعجزت هي عن المشي والوقوف، ومكثت زمنا وهي تعالج نفسها ورضيعها،
دون جدوى.
في
صبيحة أحد الأيام تذكرت زوجة سليمان، أنها لم تزر سلاموه، ولم تقدم واجب العطاء إليها،
حملت جسدها بصعوبة، وحاولت المشي على عكاز، ثم استندت على الجدار، تتكيء عليه حتى
وصلت إلى نافذة سلاموه، وخضبت أعمدتها، بالعطور، ودهنت الجدار حتى أخمصه بشتى
أنواع البخور، ثم جلست وأشعلت النار في المجمر الذي حملته معها، ووضعت عليه من
الطيب، وحين فاح شذاه، ملأ طريق الحارة، وعانق المنازل من حولنا، كان منزلنا
أكثرها حظوة بالرائحة الزكية.
أطللت
من شرفة علوية في دارنا على زوجة سليمان، كانت تناجي سلاموه بصوت خافت، وتطلب منها
السماح على تقصيرها، وعدم زيارتها..
قالت
زوجة سليمان من الكلام الكثير، وباحت بجرمها، طلبت من سلاموه العفو والسماح، مسكت
بأعمدة النافذة، وسالت دموعها، وهي تنظر لحالها، ثم رأيتها تقف على قدميها، وأقسم
لك، أنني لم أر زوجة سليمان بهذه القوة والعافية، كما رأيتها ذلك اليوم..
مثلك
والذين نحكي لهم حكايات سلاموه، لم يصدقوا حديثنا، قالوا أضغاث حكايات، وطفقوا
يخصفون علينا بسمات الجهل والتخلف، لكننا لم نتوقف عن سرد كرامات سلاموه، وبركاتها
علينا.
سيقولون
لنا إنها محض خيال، وإنها أسطورة لا وجود لها.. سيقولون إن حارتنا تقتات على
الوهم.. ومثل ذلك الكثير والكثير.
اقترب
من هنا، انظر للنافذة، وألمس بقلبلك النور الساطع
منها، أشعر بها قريبا منك، تسمع
لك، ألا تشعر بسكينة واطمئنان في هذا المكان، ها أنت ذا تسح دمعة من عينيك، وتمسك
بالنافذة، ستتلو حاجتك، وتقول ما يعلتج ذاتك من حوائج..
مثلك
نحن، والذين جاءوا من قبلنا، لكننا لا نثقل سلاموه، بحوائجنا، إننا نريد أن تتعايش
معنا، ونحس في جوارها بالأمن والأمان..
يولد
لنا أطفال، يواجهون أمراض شتى، تفتك بهم الواحد تلو الأخر، ولنا كبار في السن لا
يقوون على النهوض والوقوف على أقدامهم، ولفتياتنا أحلام كثيرة، ليس أهمها أن يطرق أحدهم
بيت والدها، ليتقدم طالبا يدها.. وحدها سلاموه من نلجأ إليها، حينما تعصف بنا
الدوائر، وتدور بنا النوائب، وتشتد علينا المصائب.
سيقولون
لك.. شيطانة.
لا
تصدقهم، من يقف مثلك باطمئنان وسكينة، عند نافذتها، لا يمكن أن يتقول على سلاموه،
بركة الله وسلامه علينا أهل الحارة.
***
أخبرتك
الآن كثيرا عن سلاموه، حكيت طويلا عنها، وأحوالنا معها، ونسيت أن أقول لك عن
الغريب الذي سكن حارتنا، كما نسيت بستان الحارة، ونسيت أن أخبرك عن السيل العرم
الذي ضرب حارتنا، هكذا أخاله.
ذات
يوم سمعت والدي، يعنف كل من البيت، ويتوعد المتسبب بالخصام، كان مخزن الفاكهة
المحفور في أحد غرف الدار، خاليا إلا من قشور السفرجل، وبقايا بذور تناثرت يمينا
وشمالا، سأل والدي عن الذي سرق الفاكهة في غير أوانها، كان الجميع صامتا، لا يدري
بما يجيب.
وانفض
الجمع بعدئذ دون تبيان من الذي أكل الفاكهة، وحرم الجميع منها.
اكتشفت
بعد سنوات، أن والدي هو الذي قام بفتح المخزن، وتذوق الفاكهة، ثم جاء عمي من بعده،
وتبعته عمتي، دون أن يعلم كل منهما بالآخر، تركوا ثمرة واحدة، ونسوا اغلاق الفتحة،
وحين دخل أخي، غرته الثمرة، فأكلها ولم يكن من النادمين.
لا
نعرف في حارتنا من الفاكهة غير السفرجل والبرتقال، وما تجود به أشجار بستان
الحارة، كالعنب والموز اللذين يثمران عاما، ويهمدان عاما آخر.
في بعض الأحيان تجود الحارات القريبة منا بفاكهة الأنبا، نأكل حاجتنا،
ونخلل الباقي، أمهاتنا وحدها تجيد الوصفة السحرية، وفي أحيان قليلة تأتينا فواكه
لا نعرف أسماءها، ولم نتذوق من قبل طعهما، فاكهة متعددة الألوان والأحجام، بعضه له
مذاق سكري والآخر حمضي، والأكثر لا نعرف وصفا لطعمه ومذاقه.
مخزن الفاكهة المحفور في إحدى أرضيات المنزل، والذي يتسع لجلوس ثلاثة أشخاص
تقريبا، يكون غالبا قريبا من البئر، حيث برودة المياه تسرى إلى جدران الحفرة،
وتحفظ الفاكهة لأسابيع وحتى أشهر.. يتم وضع طبقة الفاكهة على جريد النخيل المبتل،
ثم تغطى بطبقة جريد أخرى، ثم طبقة من الفاكهة، وبعدها طبقة من الجريد، وهكذا، نضمن
سريان البرودة إلى حبيبات الفاكهة، تحفظها أمدا بعيدا.
في الشتاء نفتح الحفرة، وكلما اشتاقت انفسنا إلى طعم السفرجل، هذه الفاكهة
التي تكون مثار حديث الجميع حول مائدتها، كل يقص حكايته، وحواديثه.. سيخبرونك عن
الطريقة المثلى في حفظ الفاكهة، والكيفية التي تجعل الثمار طازجة، كما لو قطفت
للتو، وسيقول بعضهم: إن الفاكهة في الحفرة زادت نتيجة البركة التي حلت عليها،
وبعضهم سيقول إنه وجد قشور الثمار دونها، أو كانت الحفرة خاوية على عروشها.. وطبقات الجريد بعضها على بعض، لم يمسسها بشر.
غير أن قمة الكرم في حارتنا، وأخال ذلك في كل
الحارات، هو تجمع الأهالي كلهم، يحمل كل منهم دلة القهوة، وما تيسر من التمر أو
الثمار، ثم يلتف الجمع عليها، وهم يرتشفون
فناجين القهوة من كل دلة، وكل يتباهى بجودة قهوته، وأفضلية صنعها.
ستسمع الكثير من العبارات، تحفزك على أكل
التمر وشرب القهوة، سيقولون عن التمر إنه "مسمار الركعة" ويقولون
"إن القهوة داء ودواء"، سيخبرونك عن الشيخ الذي يقصد بيت أحدهم ليستمتع
بمذاق القهوة، التي لا يجيد صنعها إلا هو، ويخبرونك عن آخر تذوق طعم القهوة في بيت
أحدهم، فلم يزره مرة أخرى.
***
هذه حارتنا.. خليط من الحكايات، وروايات لا
تنتهي.. كلما أذنت فصول حكاية بالختام، تكشفت عن حكاية أخرى، وحامت في أفقها دوامة
متواصلة من الأحداث، كلها تذهب جفاء.. أما سلاموه.. ما تنفع الناس، فتمكث في
الذاكرة.
أقرأ :
عن سلاموه أحدثك
مقاطع من حكاية طويلة قيد الأعداد