الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

من الوطن إلى محمود درويش .. أنا هنا.. وما عدا ذلك شائعة ونميمة !





لا يمكن أن تكون في رام الله، ولا تنزل في حضرة محمود درويش، وتُقرئه السلام، أو تطوف أرض فلسطين، وتنسى أن تمر عليه، وهو الساكن على ربوة قريبة منك، يناظرك بشطر، وشطر يئمم جهة القدس، العاصمة الأبدية والتاريخية لفلسطين.

لذلك كان السؤال الأول عنه، مذ أن وطئنا ترابها المقدس، وكانت زيارته تتأخر يوما بعد آخر، حتى كادت روزنامة الأيام تنقضي، ويأذن لنا بالرحيل، حينها، كان لا بد من إلغاء كل المواعيد، وتأجيل كل الزيارات، إلا محمود درويش، وكان لنا ذلك..


في الطريق إليه، كان السؤال الذي ينتابني، عما إذا كان درويش قد عرف الشخص الغريب، الذي مشى في جنازته، وما أسمه؟، وكنت أفكر ما إذا كان قد عرف ماذا وراء الموت؟ أو ماذا سنفعل قبل هذا الموت؟.
نظرت من نافذة السيارة، وأنا أتأهب للقائي الثاني بدرويش، هذا الذي صمت الكلام في حضرته، ولم ينبس ببنت شفة.. متأملا رام الله من رابية حديقة البروة، ناظرًا نحو العَلم الفلسطيني وهو يرفرف عاليا.. من هناك تترأى غير بعيد ملامح مدينة القدس بمئأذن أقصاها الشريف، وبمساجدها وكنائسها ودورها، وهي تسمع خطوات الشاعر القادم إليها، تتشبث بعزيمة الصامدين فيها، وهي تؤكد، أنها ستكون كما كتبها في وثيقة الاستقلال، عاصمة لدولة فلسطين الحرة.

"أسير في نومي. أحملق في منامي.

لا أرى أحدا ورائي. لا أرى أحدا أمامي

كل هذا الضوء لي..".


أقف على درجات السلم الصاعد في الحديقة نحو مقام الضريح

والمتحف، فأرى الأرض الفلسطينية تسمق بالشموخ، والطرقات تعطرت بدماء الشهداء، واشتعال الورد مع الزعتر البلدي، وإفتتاح نشيد التراب، وكأني بدرويش يودع الأرض التي تمتصه الآن ملحا، وتنثره حشيشاً للحصان وللغزالة، كانت العصافير قد مدت مناقيرها، في اتجاه النشيد، وقلبه:

"أنا الارض

والارض أنتِ

خديجة ! لا تغلقي الباب

لا تدخلي في الغياب

سنطردهم من اناء الزهور وحبل الغسيل

سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل

سنطردهم من هواء الجليل".


كانت رام الله تعيش على الفرح في ذلك اليوم، وتتأهب للقاء أبنائها الأسرى العائدين من سجون الإحتلال، وكأن درويش كان معهم، يحكي عن عودة الأسير:

"والعائدون إليك منذ الفجر لم يصلوا

هناك حمامتان بعيدتان

ورحلة أخرى

وموت يشتهي الأسرى

وذاكرتي قويّة".

 الصورة العامة للمكان، بدت من البعيد وكأنه كتلة بارزة في الفراغ، لكنه لم يكن كذلك، حين وصولنا إليه، فالحديقة مثل شجرة باسقة، مدت أفرعها لتصل إلى كل الجهات، وغرست جذورها، لتصل إلى كل الأمكنة، أينما يممت وجهتك، فثمة مدينة تنبض بالحلم الفلسطيني، من رام الله إلى الخليل، وحتى قرية البروة في الجليل مهد الشاعر، وحنينه الأبدي إليها، حيث عصافير الجليل مضت تبحث، خلف البحر، عن معنى جديد للحقيقة، وحيث أسم "البروة" يستقر في هذه الحديقة، ليكون ملازما لها، ورمزا لدفن الشاعر في الموطن الذي يحمل أسم ولادته.
هنا يتشكل المكان لوحة معمارية تمزج التراث بالحداثة، ويعكس جماليات الأرض الفلسطينية وخصوصيتها وتاريخها، ثمة أدراج حجرية تشق طريقها بين السناسل الصخرية إلى المرافق المتنوعة للمتحف، مساحات مفتوحة تضم حديقة تتمازج فيها مفردات الريف الفلسطيني، ومسرحا مكشوفا يعلوه مدرج يتسع لنحو خمسمائة شخص ومنبرا حرا بجانبه يرمز إلى الحلم والحياة، ثم ساحة فسيحة تقود إلى ضريح درويش، الذي يتوسط دفتي كتاب المتحف (المسرح وقاعة المتحف).  

تكوين هندسي بديع، صاغه بإحتراف المصمم المعماري الفلسطيني جعفر طوقان، إبن شاعر فلسطين الكبير إبراهيم طوقان، وخط على ركن بارز قريبا من الضريح عبارة "من الوطن إلى محمود درويش".. مختصرا كل الدلالات التي تفسر حكاية (الوطن ومحمود درويش)، والآلفة بينها، فحين ينهض الوطن، ويحلق كما النسر، ينطلق صوت الشاعر مناجيا أياه: "وطني! يا أيها النسرُ الذي يغمد منقار اللهب

في عيوني،

أين تاريخ العرب؟

كل ما أملكه في حضرة الموت:

جبين وغضب.

وأنا أوصيت أن يزرع قلبي شجرة

وجبيني منزلاً للقُبَّره.

وطني, إنا ولدنا وكبرنا بجراحك

وأكلنا شجر البلّوط...

كي نشهد ميلاد صباحك".


ولأن مفردة الوطن لازمة في قصائد درويش، ويتشكل حضورها بتنويعات عديدة، فأن أرضه تحقق أمنية الشاعر، في الاستقرار على تربته:

"إلهي أعدني إلى وطني عندليب

على جنح غيمة

على ضوء نجمة

أعدني فلّة

ترف على صدري نبع وتلّة".


هنا يسكن الضريح تحت شاهدة صخرية عالية، وقد حفر عليها قول درويش: "أثر الفراشة لا يرىُ، أثر الفراشة لا يزول".

ثمة أزهار فوضوية اللون كما وصفها درويش، في جداريته تحيط بالضريح:

"متران من هذا التراب سيكفيان الآن...

لي متر و75 سنتمترا


والباقي لزهر فوضوي اللون..

يشربني على مهل".


في وصيته كتب محمود درويش، إنه يريد "أكاليل من الورد الأحمر والورد الأصفر، لا أريد اللون الوردي الرخيص، ولا أريد البنفسج لأنه يذيع رائحة الموت".

وعلى الضريح، نطالع مقطع من قصيدة "يطير الحمام".. " ونم يا حبيبي. عليك ضفائر شعري، عليك السلام"..
قريبا من هذا المكان، كانت ثمة فتاة عشرينية، تحكي للرفاق الصفحة الأخيرة من حياة درويش، وتروي عن رحلته الأخيرة إلى هيوستن، وعن تفاؤله، والضحكة التي أطلقها قبل أن يصعد الطائرة، "كان متفائلا بنجاح العملية الجراحية قبل إجرائها له في مستشفى بمدينة هيوستن في ولاية تكساس الأميركية، وكان يتصرف على أنها إجراء طبي عادي".. لكن قلب محمود درويش توقف عن النبض، دون أن يكتب جدراية أخرى، فقد صدقت النبوء هذه المرة، وكان جناح حمامة بيضاء يحمله صوب طفولة أخرى.

لم أكن أرغب في سماع باقي الحكاية.. فقد عاد درويش محمولا على أدمع رفاق مسيرته، في الجنازة التي رسم معالمها في وصيته: "أريد جنازة حسنة التنظيم، يضعون فيها الجثمان السليم، لا المشوّه، في تابوت خشبي ملفوف بعلم واضح الألوان الأربعة، ولو كانت مقتبسة من بيت شعر لا تدل ألفاظه على معانيه، محمول على أكتاف أصدقائي، وأصدقائي – الأعداء".
في المتحف، حيث كنت أسير قريبا من الصور والكلمات، وبعض المقتنيات التي تؤرخ لحياة درويش، وترسم تفاصيل المكان، وسيرورة الأشياء التي تعامل معها، وتتردد بين جدران المتحف الصغير، المكتظ بالتفاصيل، قصائد تجمعها مفردات الوطن، الأرض، القرية، الحب، الحريّة، الحُلم، الكفاح، الصمود، الواقعيّة، الأمل، الطموح، الحنين، الهويّة، السلام، الرمزيّة، كلها محمود درويش، وكلها صفات شكّلت شخصيّته كشاعر ومناضل وانسان، هنا نقرأ مقطع من قصيدته الشهيرة "الجدارية":

"واسمي، إن أخطأت لفْظ اسمي

بخمسة أحْرفي أفقيٌةِ التكوين لي:

ميم/ المتيٌم والميتٌم والمتمٌِم ما مضي

حاء/ الحديقة والحبيبة، حيرتانِ وحسرتان

ميم/ المغامِر والمعدٌ المسْتعدٌ لموته

الموعود منفيٌا ، مريض المشْتهي

واو/ الوداع ، الوردة الوسطي ،

ولاء للولادة أينما وجدتْ ، ووعْد الوالدين

دال/ الدليل ، الدرب ، دمعة

دارةٍ درستْ ، ودوريٌ يدلٌِلني ويدْميني/

وهذا الاسم لي

ولأصدقائي ، أينما كانوا ، ولي".


ويرتسم مقطع صغير من قصيدة "الآن في المنفى"، على ركن
صغير:

"قل للغياب:


نقصتنَي!

وأنا حضرتُ..

أٌكملك".


تصميم المتحف من الداخل، يشيء بمفردة الغياب، فالاضاءة الخافتة، والمقتنيات المحفوظة خلف الزجاج، والأوراق المتناثرة في إحدى المناضد وسط المتحف، وصور درويش في مراحل حياتية مختلفة، كلها توحي أن ثمة غياب كتب هنا، سيما مع تردد صوت درويش وهو ينبعث بداخله، يدللنا عليه، أنه هنا وما عدا ذلك شائعة ونميمة!.

"وكأنني قد متُّ قبل الآن...

أَعرفُ هذه الرؤيا ، وأَعرفُ أَنني

أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ. رُبَّما

ما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما، وأَعرفُ

ما أُريدُ...

سأصيرُ يوماً ما أُريدُ".


ولوحة زجاجية تخبيء بعضا من تاريخ محمود درويش، وتستهل سيرته بالمقطع الأخير من قصيدته "أنا من هناك"..

"أنا من هناك.

أعيد السماء إلى أمها حين تبكي السماء على أمها،

وأبكي لتعرفني غيمةٌ عائدهْ.

تعلّمتُ

كل كلام يليقُ بمحكمة الدم كي أكسر القاعدهْ

تعلّمتُ كل الكلام، وفككته كي أركب مفردةً واحدهْ

هي: الوطنُ..".


وتتوالى "الجداريات" بين مقطع قصير، وآخر أطول، وفي

المقابل يطل درويش بحضوره المميز، على شاشة عرض كبيرة، وهو يلقي بعضا من قصائده، وتتشكل حروف الأبجدية لتسكب جمالياتها على النصوص المتوالية على جدران المتحف. وفي أحد أركان المكان يتربع مكتب محمود درويش الذي تنقّل معه من باريس إلى عمّان، قبل أن يستقر في مكانه هنا، وقريبا منه، تتوالى مقتنياته الكثيرة، التي صفت بإنتظام هندسي، فنجان قهوته، والإبريق الذي كان يعدها فيه، ونظارته، وجوائزه وأوسمته كلها معلقة على جدار من طين
قريته البروة، وبطاقته هويته الإسرائيلية وجواز سفره، وتذكرة سفره الأخيرة إلى هيوستن في 29 يوليو 2008م، وأعداد من مجلة الكرمل التي أسسها محمود درويش في بيروت وظل رئيسًا لتحريرها ورفيق ترحالها حتى وفاته، قبل أن تخفت وتموت هي الأخرى في ربيع 2009م.

وتنتظم في أحد الزوايا مجموعة من الصور لدرويش، توثق بعضا من حياته ونضاله، فهنا مع الشهيد الرمز ياسر عرفات، وهناك مع الأيقونة الثقافية لفلسطين فدوى طوقان، وثمة صورأخرى تجمعه مع أدورد سعيد ومراسيل خليفة وزعماء فلسطينيون وعرب، وصور أخرى مع أمه التي حنّ إلى خبزها وقهوتها، ولمستها.

وفي ركن من المتحف تتناثر بعض المخطوطات كتبها درويش

بخط يده، ومن بينها وثيقة الاستقلال التي أحكم الشاعر الراحل صياغتها بأجمل وأقوى الصياغات الأدبية، وقصاصات من صحف ومجلات تحوي نصوص وقصائد وإفتتاحيات لمحمود درويش، وبعض من القصائد والنصوص كتبها في أواخر حياته بخط جميل ومرتب، وبطريقة بديعة ومنمقة، ومن بينها قصيدة "المطر الناعم في مدينة بعيدة"، ومقاطع من قصيدة "طروادة" وقصيدة "على محطة قطار سقط عن الخريطة".. كتبها في 15 مايو 2008م، بمناسبة ستون عاما على نكبة فلسطين، أي قبل رحيله بثلاثة أشهر:

"وقفتُ في الستين من جُرحي. وقفتُ على

المحطة، لا لأنتظرَ القطارَ ولا هتافَ العائدينَ

من الجنوب إلى السنابل، بل لأحفظَ ساحل

الزيتون والليمون في تاريخ خارطتي".

خارج قاعة المتحف، ثمة محل صغير لبيع الهدايا التذكارية، ودفتر لكتابة انطباعات الزوار وكلماتهم.. من هناك شاهدت رجلا غريبا مطأطئ الرأس، يتجه ناحية الضريح، ويضع أكليل من الورد، قبل أن ينصرف.. لم أجد سبباً لأسأل: مَنْ هُو الشخصُ الغريبُ؟.



رام الله ـ في 22 أكتوبر 2013م


أقرأ أيضا :



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق